الجينات تتأثر بنشاطات صاحبها والعقل يجدّد خلاياه كما تفعل العضلات
في القرون الغابرة، سعت الإنسانية عبثاً خلف سراب اسمه «إكسير الحياة» يفترض أنه يقدر على إطالة العمر. والارجح أن الاسطورة البابلية الشهيرة «ملحمة كلكامش» عكست أيضاً فهم الانسان، منذ آلاف السنوات، أن مثل ذلك الاكسير هو محض سراب، وأن ما يستطيع الانسان اتيانه هو الأفعال التي تفيد الانسانية فتُبقي ذكره على الألسنة أجالاً طويلة. وهكذا، طويت صفحة «اكسير الحياة»، على غرار ما حصل بالنسبة الى «حجر الفلاسفة» الموهوم الذي يفترض أنه يحيل كل المعادن الى ذهب نفيس. لقد باتت تلك الأشياء في سجل الشعوذة والضلال والسعي وراء الخيالات المخادعة والعبثية. لكل حياة أجل، ولكل إنسان نهاية محتومة.
في المقابل، سعى كثير من العلماء، خصوصاً العاملين في مجال البيولوجيا والطب، الى ايجاد وسائل تساعد البشر في عبور محيط الشيخوخة البارد والقاسي، حين تذوي قدرات الانسان جسدياً وعقلياً. وحاول كثيرون إيجاد سبيل للاحتفاظ بشباب العضلات والدماغ حتى آخر العمر.
ويبدو أن العلم يخطو خطوة جبارة كل يوم في فك ألغاز بقيت عصية على العقل البشري لتحقيق هذا الحلم المشروع.
وأعطى فكّ شيفرة التركيب الوراثي لجينات الانسان (الجينوم) دفعة عملاقة للتطور العلمي نحو آفاق رحبة من معرفة سبل السير في هذا الاتجاه، لحل الألغاز الكبيرة.
«أن تأكل أحسن وأقل؛ وأن تلعب المزيد من الرياضة، وأن تقرأ وتفكر أكثر: تلك هي الوصفة التي تحمل سرّ الحياة الطويلة والصحة الجيدة التي تضمن الوصول الى شيخوخة بتجاعيد واضطراب ذهني أقل». تلك الوصفة التي خلصت إليها الدورية العلمية الفرنسية الرزينة « Sience & Vie» (العلم والحياة) في عدد خاص صدر أخيراً تحت عنوان «عِشْ من دون أن تشيخَ».
ويبدو أن الأمر بسيط لدرجة أن البعض قد لا يصدقه، وربما خيّبت أمل من يعتقدون بأن الدرب الى «شيخوخة شابة» يجب أن يكون أكثر تعقيداً.
من الناحية البيولوجية، يعني الإقلال من الأكل تخفيض الضغط اليومي على الحمض النووي الوراثي «دي ان ايه» DNA. ويؤدي الإكثار من التفكير، بمعنى بذل المزيد من الجهد في الأعمال الذهنية، إلى اعطائنا القدرة على إيجاد حلول في إطار وضعيات حياتية مختلفة ومتنوعة، ما يترك أثراً أيجابياً في بنية الحمض النووي. ويسمح للنشاط الرياضي بتجديد الخلايا العضلية حتى سن متأخرة.
في اليابان جزيرة تضم أعلى نسبة من المعمرين عالمياً، وهي جزيرة «اوكيناوا»، ويصل عدد الذين تعدوا المئة سنة فيها الى 43 لكل مئة ألف نسمة، في ما يتراوح المعدل عينه في بقية البلدان الصناعية بين 10 و20 لكل مئة الف نسمة. والسرّ في ذلك هو أن سكان هذه الجزيرة يتعلمون منذ صباهم الباكر تطبيق نظام غذائي يسمونه «هارا هاشي بو» hara hachi- bu ومعناه «مغادرة المائدة قبل ان تمتلئ المعدة الى آخِرها».
في هذا الاطار بالضبط يحضر قول للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم): «ما ملأ الإنسان وعاء شراً من بطنه»؟ كذلك: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع واذا أكلنا لا نشبع». كما ورد عنه قوله كذلك: «طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية».
إضافة الى عدم الإسراف في الأكل عند سكان الجزيرة اليابانية التي يكنيها البعض بلقب»جنّة المعمرين»، هناك خصائص أخرى لها دورها مثــل اعـــتمادهم نظاماً غذائياً قوامه النـــــباتات الغنية بالفيتامينات والمعادن، والتي تنخفض فيها نسبة الدهنيات. وكذلك تمتاز الجزيرة بهواء نقي، ويتمتع سكانها بطباع مرحة عموماً.
إضافة الى مغادرة المائدة وفي المعدة متسع من الراحة والفراغ، يتطلب الحصول على حياة أطول وأفضل تناول الخضار والفواكه بكثرة، وتنويع مصادر البروتينات لتشمل اللحم والسمك والبيض؛ وتحاشي الدهنيات ذات الأصل الحيواني والسكر السريع (الشوكولاته) واحترام عدد وجبــات الأكل اليومية مع تخفيف العشاء، وتناول فطور سخي، وكذلك مراعاة البطء في مضغ الأكل. ويجدر الحذر من تناول الخمور بأنواعها. إن خفض كمية الأكل بنسبة 30 إلى 40 في المئة يوفر حياة أطول بنسبة 20 إلى 50 في المئة.
يشبه العقل «عضلة» لها مواصفات خاصة بها، بمعنى أنها تتخصص في وظائف التفكير. وإذا لم يعمل الدماغ فإنه يضمر ويشيخ مثل القلب نفسه الذي اذا لم يتحرك ويُستعمل بواسطة الرياضة يضعف. إنه المبدأ نفسه الذي ينطبق على الميكانيك فمحرك السيارة إذا لم يعمل يصاب بالصدأ.
ويعمل العقل بواسطة المطالعة وتبادل الأفكار والعمل اليدوي واللعب وإيجاد حلول ذهنية مثل اللعب بالأرقام وحلّ معادلات الرياضيات وغيرها. إن هذه النشاطات تحرك خلايا المخ وتنشطها، كما أنها تولّد أثراً ايجابياً مباشراً في بنية الحمض النووي.
ويجدر الابتعاد عن الروتين في النشاطات الذهنية لأن التكرار يولّد الكسل، ما يبعد الحصول على النتائج المرجوة للحفاظ على فعالية الوظائف الذهنية.
واتضح ان الدماغ لا يُضّيع الكثير من خلاياه بمرور السنين، كما كان يُعتقد، بل أنه لا يفقد أكثر من 10 إلى 20 في المئة من الخلايا بين عمر العشرين والتسعين سنة.
وكذلك اتضح من خلال تجارب متنوّعة أن هناك ذكريات منسية ظهرت من خلال التمرين العقلي والذهني، ما يعني أن ثمة جينات أيقظت من سباتها، ولم تكن تلاشت كما اعتقد العلماء سابقاً. ويعني ذلك أيضاً أن النشاط الذهني المتجدّد يتيح لبنية العقل أن تتأقلم مع وضعيات جديدة.
وبالنسبة الى أثر الحركة في الجسد البشري، فإن أهميتها تأكدت منذ زمن بعيد بالنسبة الى أصحاب العمر المتقدم. إن صاحب الستين سنة مثلاً الذي يفقد عشرة في المئة من قوة عضلاته كل عشر سنوات قد يكسب بالتمرين الرياضي حتى 12 في المئة، ما يعني بالمحصلة أنه يربح 2 في المئة.
وبحسب العدد المشار إليه، فإن «إكسير» الشيخوخة المعافاة والشابة لم يكن يوماً ضمن مرمى العلم، كما هو راهناً. وفي الماضي، نظر العلماء الى طلب هذا الأمر وكأنـــه ســعي الى العـــثور على موقع جزر «واق واق» التي اتضح أنها لا توجد إلا في كتاب مثل «ألف ليلة وليلة».
أما الآن فيبدو أن العلم هو الذي اخذ على عاتقه هذه المهمة، بل أصبحت إطالة الشباب أطول مدة ممكنة أمراً واقعاً والأسباب المؤدية إلى ذلك معروفة وضمن اليقين العلمي الممكن، خصوصاً بعد فك شيفرة الجينوم.
لكن لا بد من الإشارة إلى أن أنواع الكائنات الحية لا تتساوى في ظاهرة الشيخوخة. وهكذا تتنوع أنواع الشيخوخات بعدد الأصناف الحيّة، من حيوان مائي يدعى العُدار (Hydra) يتجدد جسده باستمرار الى سمك السلمون الذي يقضي نحبه فجأة وهو في عنفوان الشباب ومباشرة بعد أدائه مهمة التناسل.
وركز بعض العلماء على أن كثيراً من الأنواع الحيوانية تنتهي مهمتها الحياتية بمجرد إنهاء مهمة الإنجاب بل بالضبط عملية التخصيب.
وأما بالنسبة الى المشاهير من البشر، فيقال أن رسّام روما العظيم «رافائيل» Rafael ثالث عباقرة الرسم خلال فترة النهضة في ايطاليا مع «ليوناردو دا فينشي» و»ميكال آنجلو»، مات عن عمر لم يتعد السابعة والثلاثين ربيعاً وهو في اوج عطائه الإبداعي، ويحكي عنه تاريخ الفن أنه كان مبالغاً كثيراً في العلاقات الجنسية!
ومع تذكّر أن نهاية الكائنات الحيّة محتومة دوماً، فإن الشيخوخة أيضاً صفة مشتركة بين معظم أنواعها، ولذا يجب النظر إليها باعتبارها جزءاً من المسار الطبيعي للكائن الحي.
ومن الناحية البيولوجية، تتلاحق ملامح الشيخوخة عندما تنخفض نسب مجموعة من الهرمونات مع التقدم في العمر. وعندما تجد الخلايا صعوبة في التكاثر والانقسام، تبدأ في التناقص. وتكثر النفايات سواء داخل الخلايا أم خارجها.
والخلايا بطبيعتها لا يمكن لها ان تتقاسم وتتكاثر الى الأبد، ويمكن تعريف العمر المتقدم بأنه تراكم تدريجي بطيء للــخلايا المُســِنّة. يلاحظ كذلك ان الحيوانات الضخمة مثل الفيلة تعيش حياة أطول من الكائنات الأصغر منها حجماً، والحيوانات البطيئة مثل السلحفاة تعيش حياة أطول مقارنة بحجمها. ويوضح عدد ضربات القلب عمر الكائنات لأن الأنواع المختلفة لها أعداد مختلفة من معدل ضربات القلب. فمثلاً يؤدي قلبا الفيل والفأر العدد نفسه من الضربات خلال عيشهما، لكن قلب الفأر يدق أسرع ويهلك صاحبه في عمر أبكر، على عكس الفيل الذي «يقتصد» قلبه في الخفقان ويطول عمر صاحبه.
ويختلف أمر البشر عن بقية الكائنات الحيّة. ويلاحظ أنه ينمو وينضج بتؤدة، مقارنة بالأنواع الأخرى. ويبقى في حضن عائلته، وقيد التربية، حتى سن قريبة من عمر التزاوج. كما أن الاستثمار المعرفي فيه يتطلب ان يستفيد منه المجتمع اطول مدة ممكنة، كما تتراكم تجربته المفيدة مع السنين.
ولمن يهوى الاستزادة في التفاصيل، وهي خاصية علمية على كل حال، فإن نسبة الزيادة في الأعمار إحصائياً، بمعنى ارتفاع المعدل العام للعمر، تراوح راهناً بين 0.4 إلى 1.1 سنة كل عشر سنوات. ومن الواضح أن الشيخوخة أصبحت ميدان بحث علمي واسع.
والخلاصة العلمية هي أن النوع البشري بات يعيش عمراً أطول، ما يفترض الاهتمام بشيخوخته التي تتطاول مدّدها باطراد.
مصطفى العروي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد