العالم العربي وما قبل الحداثة
تعاني المجتمعات المعاصرة في البلدان الشبيهة بالبلدان العربية، أي تلك التي استقلت قبل نصف قرن تقريباً وتخلصت من الوجود الاستعماري الكلاسيكي مشكلات العلاقة مع المجتمعات الحديثة، كما أنها تولد معضلة معقدة في سياق التأريخ لتطور المجتمعات والأفكار في العالم المعاصر. فهل يمكن النظر إلى مجتمعاتنا بعامة بصفتها تقليدية أم حداثية أم بعد حداثية؟ كيف يمكن عالم الاجتماع أو مؤرخ الأفكار أو الباحثين في شؤون التنمية أن يدرجوا مجتمعاتنا، التي تهيمن عليها النزاعات والصراعات العرقية والمذهبية، والمناطقية والقبلية كذلك، في الزمان الحديث؟ ألا نبدو وقد قطعنا ما يقارب العقد من القرن الحادي والعشرين وكأننا نعود القهقرى إلى حقب وعصور سابقة حيث تلجأ مجتمعاتنا، التي يفترض أنها دخلت زمن الحداثة وما بعد الحداثة، إلى البنيات المجتمعية الصغرى، كالعائلة والعشيرة والقبيلة، بصفتها حامية الفرد وملاذه من عصف العالم الخارجي؟
تلك أسئلة ضرورية ينبغي أن نطرحها على أنفسنا عندما نبحث علاقة العالم العربي في الوقت الراهن مع سياقات التحول والتطور العالمية في الفكر والثقافة والتقدم التكنولوجي الذي يعصف بالكوكب الأرضي كله، حيث يبدو المركز الغربي الذي يرسل تأثيراته عبر وسائل إعلامه ومعرفته المعولمة مهيمناً ومسيطراً على أقدار مجتمعات العالم الثاني والثالث. لكن الاختلاف القائم ما بين الحداثة وما بعد الحداثة، الغربيتين، الذي يجعل ما بعد الحداثة تستبدل مفهوم «الإجماع»، الحداثي، بمفهوم «خرق الإجماع» ما بعد الحداثي، يدفع الثقافة الغربية المركزية لإتاحة الفرصة لما يسمى «الثقافات الفرعية» التي تنتجها أقوام غير أوروبية وأقليات تعيش في المجتمعات الغربية أو حتى أفراد يكتبون بلغات الغرب الأساسية لكي يثبتوا حضورهم في هذه الثقافات.
وفي الحقيقة أن الذين يدعون من مثقفي الغرب، إلى تشجيع «الثقافات الفرعية» في المجتمعات الغربية يهدفون إلى إحياء لغاتهم وتطعيمها بما هو جديد وحيوي وحيّ، لأن الناظر إلى الثقافات الغربية الرئيسة في السنوات الأخيرة يجد أنها قد وصلت، على صعيد الأدب والفن، إلى نوع من التصلب والجفاف والدوران في حلقة مفرغة في التعبير. لكن علينا ألا نغفل في هذا السياق كون تركيبة المجتمعات الغربية قد تغيرت خلال النصف الثاني من القرن العشرين وذلك بفعل هجرة أبناء المستعمرات وأبناء الدول الأخرى غير الغربية، فالمجتمع الإنكليزي الخالص تحول في بعض المدن الرئيسة إلى مجتمع مختلط من الإنكليز والهنود والباكستانيين والأفارقة. ويصدق الأمر نفسه على فرنسا التي لم تعد فرنسية تماماً، إذ هناك الملايين من المسلمين الآتين من شمال إفريقيا العربية ومن بلدان أخرى مختلفة. ولا شك في أن لهذه الأقليات مشكلاتها الخاصة وإرثها الثقافي، وهي ستعبر عن تلك المشكلات وتستلهم ذلك الإرث من خلال الكتابة والتعبير بلغتها الجديدة.
إننا نسمع كل يوم عن كثر من أبناء الثقافات غير الغربية يحصلون على الجوائز الثقافية الغربية، وهو أمر يعود إلى تغير مفهوم «الغرب» لنفسه، وإلى كون تلك اللغات الأساسية الغربية تطمح إلى الانتشار خارج حدودها الجغرافية. ولا يتم ذلك إلا باجتذاب أبناء شعوب أخرى غير غربية للكتابة بلغات الغرب بحيث تعزز تلك اللغات حضورها في العالم. يصدق ذلك على اللغات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية. وعلينا ألا ننسى أن بريطانيا وفرنسا وإسبانيا كانت في يوم من الأيام دولاً استعمارية تحتل مساحات شاسعة من الأرض، ومن ثمّ فإن كثراً من أبناء المستعمرات كانوا يكتبون بلغات الدول المستعمِرة. ربما يكون الاستعمار القديم قد تراجع وانكمش إلى داخل حدوده، لكن اللغة تبدو وسيلة جديدة لإعادة الانتشار الإمبريالي. إن الانتشار عبر اللغة يعرّض الثقافة الغربية إلى نوع من الاحتلال المعاكس من الثقافات غير الغربية، ويؤدي إلى تهجين اللغة وتطعيمها بمفردات وأفكار غريبة عليها. وبهذا المعنى تؤدي عملية انتشار اللغة خارج حدودها الجغرافية والثقافية إلى خلخلة هذه اللغة وتجويفها من الداخل بحيث تتغير المفاهيم الكلية المركزية التي كانت الثقافة الغربية تسبغها على نفسها.
في المقابل، وعلى صعيد تأثير الثقافة الغربية في ثقافات البلدان التي كانت مستعمرة، علينا أن نقر بأن إرث الاستعمار ما زال فاعلاً في ثقافات تلك البلدان. وقد غيرت ثقافة المستعمِر، بل وقلبت كيفية نظر البلاد المستعمَرة إلى نفسها والعالم. وبغض النظر عن جرح الاستعمار والعوامل السلبية التي أحدثها في تراب الدول المستعمَرة، وما ألحقه بأرواح هذه الشعوب من خراب، فقد كان للثقافة الغربية دور مُخصّب لثقافات تلك الشعوب، فهو أيقظها من سباتها وأخرجها من حدودها الجغرافية الضيقة وجعلها تدخل عصر الحداثة الغربية مرغمة. ما هو أهم من ذلك في نظري أن تلك الثقافات، وبفعل صدمة الاستعمار، أخذت تعيد النظر في تراثها وتنظر إلى ميراثها الثقافي بعيون جديدة.
- من هنا يمكن القول إن الغرب لم يكن شراً كله، وهذا يصدق على العرب، كما يصدق على الشعوب الآسيوية والإفريقية الأخرى، فلم يكن العرب معزولين في سياق تطورهم الحضاري والثقافي خلال القرن السابق، وأجزاء من القرن الذي سبقه، عن الغرب. إن الغرب جزء منا ومن سياق تشكلنا في العصر الحديث. وكما أثرت الحداثة الغربية في الفن والأدب والمجتمع والاقتصاد، فإن عصر ما بعد الحداثة الغربية يؤثر فينا ويرج قناعاتنا الثابتة وطرق تفكيرنا بالعالم من خلال ما يسمى الآن ثورة التكنولوجيا والمعلوماتية التي دخلت بيوتنا من غير استئذان. ولا يستطيع عاقل أن يماري في مدى التأثير الهائل للحاسوب والإنترنت في ثقافة أبنائنا، وحتى في ثقافتنا نحن الكبار، حيث يبدو العالم الآن قرية صغيرة تنتقل فيها الإشارات من طرف العالم القصي إلى طرفه الآخر في عصر تنبأ بحلوله فلاسفة ما بعد الحداثة.
في هذا السياق من التطور المعرفي والتكنولوجي يمكن أن نسأل أنفسنا عن غزو ما بعد الحداثة للحياة العربية. إن من التفسيرات التي يقدمها بعض منظري الحداثة، وناقديها كذلك، أنها تعني تجاور المتناقضات، فالشعبي يجاور النخبوي، وما هو رفيع في الثقافة يجاور السلع الثقافية الموجهة للاستهلاك السريع، كما أن الأسواق التجارية والمطاعم السريعة تجاور العمارات الشاهقة المعقدة البناء والوظيفة.
من وجهة النظر السابقة يبدو الوطن العربي، بتشكيلاته المجتمعية، ما بعد حداثي بصورة نموذجية، إذ إن تطور المجتمعات العربية خلال السنين المئة الأخيرة يبدو غير متجانس، فهناك فئات اجتماعية تحتضن الثقافة والمفاهيم الغربية، وتعيش في عالم نخبوي بعيد من الهموم اليومية لمجتمعاتنا، إلى جوار فئات وشرائح اجتماعية ما زالت تنتمي إلى الثقافات التقليدية، كالعشائرية والرعوية والبداوة، التي ترى إلى العالم بعيون عتيقة. فإذا أخذنا التفسير السابق لما بعد الحداثة، فإن المجتمعات العربية هي مجتمعات ما بعد حداثية بمعنى من المعاني! ومع أنني لا أؤمن تماماً بالتعريف السابق الذي يقدمه بعض نقاد ما بعد الحداثة، فإن في الإمكان القول إن دخولنا عصر ثورة المعلوماتية يسبغ علينا بعض سمات المجتمع الأوروبي والغربي ما بعد الحداثي، وإن ظل ذلك التأثير نخبوياً لا يجاوز حدود النخبة ودوائر تحركها.
بالمعنى السابق تظهر تجليات ما بعد الحداثة في الأدب والفن، أكثر من ظهورها في المجتمع والسياسة والاقتصاد. فنحن نعثر على سمات النص ما بعد الحداثي في الفن التشكيلي والرواية والشعر، وحتى في الغناء والموسيقى والسينما وفنون دارجة أخرى. لكن هذا التفسير يعيدنا إلى تأثير الحداثة الغربية المبكر في الإبداع والفكر العربيين، فعلى رغم أن مجتمعاتنا ما زال يصدق عليها القول إنها «ما قبل حداثية»، فإننا ننتج أدباً حداثياً في مجتمع ما قبل حداثي.
فخري صالح
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد