سفارة يحيى بن حسن الغزّال الى بلاد النورمانديين عام 845
يتحدر الغزّال (يحيى بن حسن البكري، ث 250هـ - 864م) من أسرة عربية عريقة، وكان معروفاً بعلمه الواسع وباتقانه لغات عدة. وبشهرته كشاعر كبير، ويذكر المقري عن ابن حيان قوله عن الغزّال في «المقتبس»: «كان الغزّال حكيم الأندلس، وشاعرها وعرافها، وهو ما جعل الأمير عبدالرحمن يقع اختياره عليه، لإرساله الى ملك النورمان، حاملاً رسالته اليه مصاحباً سفارة ملك النورمان في طريق عودتها بعد انتهاء سفارتها الى الأندلس، في آخر صيف سنة 845م أوائل سنة 221هـ حاملاً الهدايا الى ملك النورمان، وأتت رحلته قبل انتقال النورمانديين الى المسيحية.
وبعد رحلة بحرية شاقة عبر المانش، نزلوا في جزيرة ملك النورمانديين، فوصف الغزّال تلك الجزيرة، مع أهلها المجوس، فيقول: «وهي جزيرة عظيمة في البحر المحيط... فيها من المجوس ما لا يحصى عددهم». ثم تحدث عن جيرانهم البعيدين الذين تحولوا الى المسيحية، إلا بعضهم بقي على المجوسية كما هم أهل جوتلند. فيفضل الغزّال المسيحيين على المجوس دينياً، واعتقد الغزّال بأن المجوس الوثنيين، هؤلاء متخففين من القيود الأخلاقية، ويفتقرون الى (الحرمات) التي اعتادها الغزّال في ثقافته، فيقول الغزّال: «هم على دينهم الأول من عبادة النار، ونكاح الأم والأخت وغير ذلك من أصناف الشنار».
بعد هذا يواجه الغزّال موقفين خطيرين: أولهما يتعلق بمدى تمسكه بمهابة الدولة والأمة اللتين يمثلهما، وباختيار عقيدته التي لا تبيح له أن يسجد لغير الله، فقد اشترط الغزّال على الملك، منذ البداية، ألا يطلب منه شيئاً يخرجه عن تقاليده العربية الإسلامية، أو يتنافى مع تعاليم دينه، و «ألا يسجد له ولا يخرجهما عن شيء من سنتهم، فأجابهم الى ذلك»، إلا أن الملك أراد أن يحتال على الغزّال، وذلك بأن يجعله يضطر، بطريقة ملتوية، ليسجد اليه، اذ دعاهما للدخول اليه في مدخل «يضيق حتى لا يدخل عليه أحد إلا راكعاً»، فما كان من الغزّال إلا أن احتال على الأمر «فجلس على الأرض وقدّم رجليه وزحف على إليته زحفاً، فلما جاز الباب استوى واقفاً»، وكان الملك قد هيأ صالونه بالسلاح والزينة الكاملة «فما هاله ذلك ولا ذعره، بل قام ماثلاً بين يديه، فقال: السلام عليك أيها الملك وعلى من ضمّه مشهدك، والتحية الكريمة لك، ولا زلت تتمتع بالعز والبقاء والكرامة الماضية بك الى شرف الدنيا والآخرة، المتصلة بالدوام في جوار الحي القيوم، الذي كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم واليه المرجع».
فما كان بالملك الذي فسَّر له المترجم كلام الغزّال إلا أن عبر عن اعجابه به، وبما يمثله ويرمز اليه من حضارة العرب المسلمين، فقال الملك: «هذا حكيم من حكماء القوم، وداهية من دهاتهم»، وعجب من جلوسه الى الأرض وتقديمه رجليه في الدخول وتجاوزه لاختبار اذلاله، اذ قال الملك: «أردنا أن نذله، فقابلنا وهو هنا بنعليه، ولولا أنه رسول لأنكرنا ذلك عليه، وقدّم الغزّال كتاب أميره الى الملك، فاستحسن الملك الرسالة بعد أن عرف معناها، كما أعجب بهدية أمير الأندلس المشتملة على «الثياب والأواني»، وخصص للغزّال ورفاقه منزلاً يقيمون به، ووسع الجراية عليهم، ويروي الغزّال كيف أثبت تفوقه، اذ جادل علماءهم «فبكتهم، وفي بعضها ناضل شجعانهم فأثبتهم» وكل هذا دلال على تفوق حضارته، وعز مكانتها.
أما الموقف الثاني الذي واجهه الغزّال، فهو يتصل بعلاقته الغامضة الطريقة مع زوجة الملك، الذي أثار اعجابها وحبها، وأثارت حبه واعجابه، وهو الشاعر الرقيق القلب، إلا أن العلاقة كشفت تباعد قيم المرجعيتين الثقافيتين: ثقافته وثقافة أوروبا الشمالية المجوسية، فكان لقاء يتخلل مفاجآت وفجوات بين مرجعيتين للقيم. اذ لما سمعت زوجة ملك المجوس بذكر الغزّال، وتفوقه، دعته لتراه، فلما دخل اليها سلم ثم شخَّص فيها طويلاً بإعجاب، فسألته عن طريق الترجمان عن سبب ادمان نظره، ألفرط استحسان أم لضد ذلك؟ فقال: «ما هو إلا أني لم أتوهم (=اتصور) أن في العالم منظراً مثل هذا... لأن الحسن الذي لها والصفات المناسبة ليس يميزه أحد إلا الشعراء، وان أحبت الملكة أصف حسنها وحسبها وعقلها في شعر يروى في جميع بلادنا، فعلت ذلك»، فسرّت الملكة بذلك سروراً عظيماً «وأمرت له بصلة» (أي هدية) لكنه رفضها، فسألته عن طريق الترجمان: لِمَ لا يقبل صلتي؟ ألأنه حقّرها أم لأنه حقرني؟ فقال الغزّال: «ان صلتها الجزيلة وان الأخذ منها لتشرف لأنها ملكة بنت ملك، ولكن كفاني من الصلة نظري اليها واقبالها عليَّ، فحسبي بذلك صلة»، فازدادت سروراً وعجباً، وأمرت أن يتصل بها «ومتى أحب أن يأتيني زائراً فلا يُحجب، وله عندي من الكرامة والرحب والسعة».
ويروي الغزّال ان زوجة ملك المجوس وتدعى (نود) أولعت به، فكانت لا تصبر عنه يوماً حتى توجّه فيه (أي تستدعيه) ويقيم عندها يحدثها بسير المسلمين وأخبارهم وبلادهم، وبمن يجاورهم من الأمم. وسألته يوماً، وقد خطه الشيب، عن سنه، فقال لها مداعباً: عشرين سنة، فقالت له عن طريق الترجمان: ومن هو من عشرين سنة يكون به هذا الشيب؟ فقال لها: وما تنكّر الملكة من هذا؟ ألم تر مهراً ينتج وهو أشهب؟ فضحكت (نود) به، فقلما انصرف يوماً من عندها الا اتبعته بهدية تلطفه بها من ثياب أو طعام أو طيب، حتى شاع خبرها معه، وأنكره أصحابه، وحذروه من عقابيل حبه، فتقاعس عند ذلك عن زيارتها، فباحثته عن ذلك، فصارحها بمخاوفه من نتيجة اتصالهما ببعضهما، فما كان الا ان تبين تغاير أخلاقهم عن أخلاق النورمان المجوس، وقيمهما... ولا سيما في ما يخص العلاقة بين الرجل والمرأة، وتخفّف المرأة عندهم من الضوابط التي ألفها الغزّال في بلاد الإسلام، فعندما صارحها بخشيته عليها وعلى نفسه من انكشاف حبهما «ضحكت» مستهينة بالأمر، وقالت له: «ليس في ديننا نحن هذا (=أي تحريم للعلاقة الجنسية خارج المؤسسة الزوجية) ولا عندنا غيرة، ولا نساؤنا مع رجالنا الا باختيارهن، تقيم المرأة معه (= أي الرجل) ما أحبت، وتفارقه اذا كرهت. وان عادة المجوس قبل ان يصل اليهم دين رومية (=المسيحية)، ألا يمتنع أحد من النساء على أحد من الرجال، الا أن يصحب الشريفة الوضيع، فتعيَّر بذلك». ولما سمع الغزّال من قولها عادت لقاءاته بها، ثم انفصل الغزّال عنها لاضطراره للرحيل الى بلاده، بعد أن أقام في بلاد النورمان شهرين، رجع ليحدثنا عن تجربته العاطفية، وليعطينا صورة عن حال النورمان في الفترة قبل المسيحية، وليضيء لنا ولغيرنا وصفاً اثنوغرافياً للحالة الدينية والاجتماعية.
شمس الدين الكيلاني
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد