هل يتعثر المسار التركي – السوري؟
جو غانم:
كان من المتوقع أن يُعقد الاجتماع الرباعي بين نوابِ وزراءِ خارجية روسيا وسوريا وإيران وتركيا في العاصمة الروسية، بالتزامن مع زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى روسيا، التي كانت متوقعة في أي لحظة حتى ظهر يوم الثلاثاء 14 شباط/مارس.
وبعد وصول الرئيس الأسد بالفعل، عشية يوم الثلاثاء، إلى مطار فنوكوفا الدولي في العاصمة الروسية، تسربت معلومات غير رسمية عن تأجيل اللقاء الرباعي إلى موعد غير محدد، وهو ما كان متوقعاً لدى متابعي هذا الشأن الذين يرصدون موقف دمشق المتعلق بتفاصيل مسار التقارب مع تركيا الذي تقوده موسكو وطهران، وقد تمّ تأكيد هذه المعلومات في وقتٍ متأخر من يوم الأربعاء، وصولًا إلى يوم الخميس، حيث جرى إعلان إلغاء الاجتماع تمامًا، في ظلّ إصرار دمشق على تنفيذ شروط محدّدة أرسلتها لأنقرة عبر الوسطاء الروس والإيرانيين، وعجز أنقرة عن إقناع السوريين بالجلوس على الطاولة لمتابعة المباحثات قبل التعهّد خطيًّا بتنفيذ أيّة شروط.
ترفض دمشق منذ اللحظة الأولى لبدء هذا المسار تقديم هدايا مجانية للرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي يقف على أعتاب مرحلة مهمة جداً من تاريخه السياسي، لجهة مواجهته وفريقه تداعيات الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وشمالي سوريا يوم السادس من شباط/فبراير الفائت، والذي خلف أضراراً فادحة ودماراً كبيراً في العديد من المدن والبلدات التركية، في الوقت الذي يُحضر لخوض معركة الانتخابات الرئاسية الضارية في مواجهة المعارضة التركية التي تحشدت في وجهه، في ظل وجود قلق إردوغاني حقيقي من خسارة تلك الانتخابات في هذه الظروف.
أراد إردوغان تحقيق تقدم سياسي “معنوي” كبير في ملف التسوية مع سوريا، من دون أن يُقدم للجانب السوري أي ضمانات عملية وواقعية تتعلق بانسحاب القوات التركية التي تحتل أجزاء من الأرض السورية في الشمال، أو أن يُوقف دعم الفصائل الإرهابية المسلحة في إدلب وريفها وريفي حلب واللاذقية، التي لم توقف اعتداءاتها واستفزازاتها ضد الجيش العربي السوري والأهالي المدنيين في تلك المناطق.
لذلك، ركزت وسائل الإعلام التركية التابعة أو القريبة إلى السلطة والحزب الحاكم في أنقرة، كما بعض المسؤولين الأتراك، على الحديث عن تقدم إيجابي وخطوات متلاحقة في هذا الملف، منها الاحتفاء بالاجتماع الرباعي المشار إليه، من دون المرور على الشروط السورية الواضحة في هذا الشأن، وعلى رأسها وضع جدول زمني قصير لانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، والشروع في خطة إنهاء وضع الفصائل المسلحة في إدلب والشمال فوراً، وخصوصاً أن هذا الاجتماع سيأتي بعد قمة “دفاعية” عُقدت بين وزراء دفاع الدولتين في موسكو خلال شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي بحضور وزير الدفاع الروسي وقادة أمنيين واستخباريين من البلدين، ما أعطى انطباعاً بأن الأمور ذاهبة نحو حلحلة سريعة ستفضي إلى إعادة العلاقات بين الجانبين قبل الانتخابات الرئاسية التركية، وهو ما أراده إردوغان بالتحديد.
ولأنَّ الاجتماع الرباعي “تقني”، كما جاء في الإعلان الأول عنه الشهر الماضي، فهذا يعني حضور خبراء عسكريين وخبراء في الطوبوغرافيا والخرائط وغير ذلك من الاختصاصات المتعلقة بوضع لمسات أخيرة لرسم واقع جديد على الأرض، كما على الخريطة الجغرافية والعسكرية والديمغرافية.
لكن أنقرة لم تتطرق إلى كل هذا في إعلاناتها وأحاديث مسؤوليها حول الاجتماع، وهو الأمر الذي دفع دمشق إلى التلويح بعدم الحضور قبل 3 أيام من الموعد المحدد، لتبذل طهران وموسكو جهوداً إضافية لدى الأتراك للقيام بخطوات تُحقق شروط دمشق، وتدفع بالجهود قدماً نحو إنجاح المسار، وهو ما لم يتحقق حتى اللحظة.
هذا الأمر دفع معاون وزير الخارجية السوري، السفير أيمن سوسان، إلى الإعلان بوضوح أنَّ “مشاركة سوريا في الاجتماع الرباعي لا تزال قيد البحث”، وذلك صباح يوم الأربعاء 15 من هذا الشهر، أي في اليوم الذي توقع المراقبون أن يُعقد فيه الاجتماع.
وصرح نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، أن بلاده “تُجري الاستعدادات اللازمة” لعقد هذا الاجتماع، وفي هذا مؤشر على عدم تحقيق أي تقدم على مسار الاستجابة التركية للشروط السورية، وبالتالي تأجيل الاجتماع إلى أجل غير مسمى، ما لم تُعلن أنقرة خلال ساعات أنها حاضرة ومستعدة لتقديم خطة مكتوبة تتضمن جدولاً زمنياً واضحاً لانسحاب قواتها من الأراضي السورية المحتلة، والنتيجة أنّ الجانب السوري عاد ظهيرة هذا اليوم الخميس، أي بعد ساعات من لقاء الرئيس الأسد بالرئيس بوتين، إلى تأكيد إلغاء هذا اللقاء تمامًا، ما يعني بأنّ أنقرة لا تملك خطّة عمليّة حقيقية تقدّمها لدمشق لحلّ الوضع في الشمال، وما يؤكّد بالطبع، أنّ المفاوض السوري ما زال على رفضه التام لأيّ خطوات جديدة لا تبدأ من نقطة تنفيذ شروطه المتعلقة بالسيادة الكاملة على أرضه.
والمعلومات هنا تشير إلى أنّ دمشق قدّمت بنودًا واضحة يجب القبول بها قبل أنْ تنتقل الاجتماعات إلى مستويات دبلوماسية ومن ثم رئاسية، أهمها ما أشرنا إليه بخصوص الالتزام بالانسحاب الكامل من الأراضي السورية وفق اتفاقية ملزمة، ثمّ تعهّد الدولتين بعدم دعم أيّ أنشطة أو جماعات إرهابية تستهدف الطرف الآخر، وأيضًا أنْ تحصل سوريا على حصتها الكاملة من مياه نهريّ الفرات ودجلة، وتقديم أنقرة تسهيلات اقتصادية كبيرة لسوريا.
المؤكد، بحسب التصريحات الرسمية والمعطيات، أنَّ موسكو وطهران تدعمان بقوة موقف دمشق، وتسعيان لإقناع الأتراك بتقديم تفاهمات خطية مكتوبة وواضحة تحدد جدولاً زمنياً لكل الخطوات الواجب اتخاذها من قبل أنقرة، ولم تفلح محاولات الأتراك لدى العاصمتين لدفعهما باتجاه الضغط على دمشق للمضي قدماً في تفاهمات شفهية تستند إلى تصريحات إيجابية فحسب.
موسكو وطهران لا تقومان بهذا الدور الضاغط من الأساس، مع علم المسؤولين الأتراك بأن مثل هذه الضغوط لا يجدي لدى دمشق، خصوصاً بعد اللقاء التركي مع المسؤولين الأمنيين والعسكريين السوريين، الذين كانوا واضحين بشأن الشروط السورية والإصرار على تنفيذها قبل الوصول إلى اللقاءات الدبلوماسية التي كان من المفترض أن تُتوج بلقاء بين الرئيسين السوري والتركي في موسكو خلال هذا الشهر، كما جاءت التوقعات سابقاً.
سورياً، هناك ملفات شائكة ومعقدة جداً أفرزها التورط التركي في العدوان على سوريا على مدى عشر سنوات، وهي ملفات لا يمكن تجاوز أي منها، سواء لجهة الاحتلال العسكري التركي للأراضي السورية في الشمال، أو دعم المجموعات الإرهابية المسلحة، واحتضان كيانات سياسية سورية مُخترَعة تركياً، وإحلالها مكان الدولة السورية في المؤسسات المسروقة في إدلب وجوارها، كأدوات تركية تُنفذ مخططات أنقرة على حساب السيادة والدولة والمجتمع السوريين، أو لجهة التغيير الديموغرافي الذي أحدثته تلك العوامل والأدوات مجتمعة، وكذلك ملف اللاجئين الذين تريد أنقرة إعادتهم سريعاً بطريقة تجعل منهم سكان “كانتون” حدودي يخضع للنفوذ التركي الكامل، بما في ذلك النفوذ “الثقافي” والاقتصادي، بعدما فرضت أنقرة مناهجها الدراسية وعملتها في تلك المناطق.
كل هذا يستدعي من دمشق التريث طويلاً قبل الإقدام على أي خطوة غير كاملة الوضوح بالنسبة إلى السيادة الوطنية السورية، وهو ما تفعله دمشق تماماً على هذا المسار حالياً، فيما يتطلب من أنقرة، التي لا تملك خيار التريث والانتظار بسبب الظروف السياسية الحالية التي تواجه نظامها الحاكم، أن تُبادر سريعاً إلى وضع الخطط العملية المكتوبة مع الأصدقاء المشتركين، الروس والإيرانيين، لينضم إليهم الخبراء السوريون الجاهزون لوضع جميع الخطوط والنقاط على الخرائط.
وفي اللحظة التي تتعهّد فيها أنقرة بكل ذلك، سيصل الدبلوماسيون والخبراء السوريون إلى موسكو أو طهران، أو حتى الإمارات العربية المتحدة. ولكن، حتى لو حصل كلّ هذا الآن، فإن أي تسوية سورية – تركية ستأخذ وقتها اللازم سورياً، الذي، بالتأكيد، سيتجاوز الوقت الباقي الذي يفصل إردوغان عن لحظة الانتخابات.
لذلك، من المتوقع أن ينتهز الرئيس التركي فرصة الشهرين الباقيين لتقديم ما يُمكنه من إحراز تقدم على مسار العلاقات التركية – السورية يواجه به مواطنيه يوم الاستحقاق، خصوصاً بعد ازدياد ضغط ملف اللاجئين في الداخل التركي بعد الزلزال المدمر الذي حوَّل بعض الأتراك أنفسهم إلى مُهجرين داخل بلادهم، وهم أولى، في نظر الناخب التركي الغاضب، بالعناية والرعاية والإسكان الآن، وليس ملايين السوريين الذين تحولوا إلى عبء اجتماعي واقتصادي قبل الزلزال نفسه.
وبالنظر إلى التصريحات التركية الأخيرة، خصوصاً تصريحات وزير الدفاع خلوصي أكار، في حديثه إلى “وكالة الأناضول” يوم الأحد الماضي، ورداً على سؤال عن رفض دمشق حضور الاجتماع الرباعي من دون تعهدات تركية مكتوبة بالانسحاب المجدول من الأراضي السورية، إذ توقع أكار من دمشق، بلهجة لطيفة، أن تتفهم موقف بلاده من “وحدات حماية الشعب” الكردية، مؤكداً أن بلاده لا تحتل الأراضي السورية، بل إن وجودها هناك “يهدف إلى مكافحة الإرهاب وحماية حدودها ووحدة أراضيها”، يبدو أن الأمور ذاهبة باتجاه الضغط على أنقرة، لا دمشق، لتقديم خطة تستجيب للشروط السورية وتنسيق جهود الدول الأربع، سوريا وتركيا وإيران وروسيا، للدخول في هذا التحدي في ظلِّ الظروف الداخلية لكل منهم، والإقليمية والدولية في وجه الولايات المتحدة الأميركية وأدواتها، خصوصاً مع تزايد قلق جميع الأطراف، وعلى رأسهم تركيا، من الخطط الأميركية الأخيرة التي أظهرت نيات واشنطن فعل كل شيء لعرقلة مثل هذه التفاهمات والتسويات.
وقد أتت زيارة رئيس أركان القوات الأميركية، مارك ميلي، إلى الشرق السوري، رسالة واضحة إلى الجميع حول مضي واشنطن في دعم الكرد وتقويتهم وتكريس الوضع الراهن في ميدان الاشتباك السوري. ولا شيء يُقلق إردوغان أكثر من هذا الآن سوى خسارته الانتخابات القادمة، وبالتالي، كل تلك العوامل تشير إلى احتمال سير أنقرة في الخطة الروسية – الإيرانية التي تقتضي إيجاد أرضية ثابتة للثقة بين الجانبين السوري والتركي، ولا ثقة من دون أوراق مكتوبة بالنسبة إلى دمشق.
وحيث وصل الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو، وعقد، لساعات طويلة، اجتماعاً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فالمؤكد أنّ ملف التسوية السورية – التركية قد أخذ مساحته الواسعة من الحديث، إلا أن الأوساط السورية القريبة من الحدث، أكّدت عدم ممارسة موسكو أي ضغوط على دمشق للتنازل عن حقوقها وشروطها، بل على العكس، إذ يبدو أن لدى الرئيس بوتين، بالاتفاق مع شركائه الإيرانيين، أفكار وخطط يقدّمونها لأصدقائهم الأتراك، ستدفع أنقرة إلى التعجيل في القيام بخطوات عملية على الأرض، تتزامن مع تعهّدات مكتوبة تصل إلى مستوى “الاتفاقيّات” بين الدولتين، والأرجح أنْ يحصل هذا قبل منتصف شهر نيسان المقبل، إذ ليس لدى إردوغان أيّ أوراق إضافية أو جديدة يلعب بها على الأرض السورية، ودمشق تدرك هذا جيّدًا، وهي مستعدة لكلّ الاحتمالات.
الميادين
إضافة تعليق جديد