سعار أميركي – إسرائيلي.. ودمشق وحلفاوها نحو اختراقات كبيرة
جو غانم:.
خلال الساعات الأولى من صباح يوم الخميس 9 آذار/مارس بتوقيت دمشق، أجرى مجلس النواب الأميركي تصويتاً على وثيقة تدعم مشروع قرار يقضي بسحب القوات العسكرية الأميركية الموجودة كقوات احتلال على الأرض السورية، وجاءت النتيجة تصويت 103 مشرعين أميركيين لمصلحة الورقة، وتصويت 321 ضدها.
وبذلك، أعلنت “الديمقراطية” الأميركية بوضوحٍ جلي رفضها إنهاء هذا الاحتلال، من دون أن تشرح للمواطن الأميركي ذاته مبرراته “المشروعة”. وقبل ذلك، من دون حتى أن يناقش الكونغرس نفسه في أي لحظة على مدى السنوات الثماني الماضية أسباب وجود تلك القوات في سوريا.
وفي النتيجة، لم تكن غالبية المواطنين السوريين الذين “يتفضل” عليهم المشرع الأميركي بهذه الديمقراطية الشفافة والمدمرة يتوقعون غير ذاك الرفض، وغير استمرار الاحتلال والنهب والتدمير الأميركي لبلادهم، لأنهم يعرفون جيداً حدود نصيبهم من مبادئ “العالم الحر” وقيمه.
بعد مماطلة دامت 10 أيام تلَت وقوع الزلزال المدمر في سوريا وتركيا، قررت الإدارة الأميركية، وتحت ضغط “الحرج الإنساني”، أن تعلن عما سمته “استثناءات مؤقتة” من قانون العقوبات “قيصر”، تتعلق بعمليات الإغاثة والمساعدات الإنسانية للمناطق المنكوبة في سوريا المحاصرَة، على أن تستمر تلك الاستثناءات المزعومة 6 أشهر من تاريخ الإعلان.
كعادتها، وكما يعرف القاصي والداني، وأولهم المواطن السوري، فإن إعلانات الولايات المتحدة في حالات كهذه، لا تعدو كونها بالونات إعلامية وسياسية ستخفي تحتها ويلات جديدة، من خلال ابتكار أساليب أخرى للحصار والتجويع وبث الفوضى والدمار في البلد المستهدف، وهو ما حصل بالفعل في الحالة السورية هذه المرة أيضاً.
وإذا كان قادة كيان الاحتلال الإسرائيلي لا يقدمون على أي عمل عدواني في سوريا والمنطقة من دون أمرٍ أميركي، أو على الأقل من دون تنسيق تام مع الإدارة الأميركية الحاكمة في البيت الأبيض، فإن أولى “المساعدات الإنسانية” الأميركية أتت من طائرات الكيان الغاصب على شكل صواريخ مدمرة سقطت على حي كفر سوسة وسط العاصمة السورية دمشق، لتحصد أرواح ثلة من خيرة رجال ونساء الشعب السوري.
ولم تتأخّر الدفعة التالية من عمليات “الإغاثة” الأميركية، فقد رأى قادة الولايات المتحدة ومسخهم الإسرائيلي أن مطار حلب الدولي بات يشكل شرياناً حيوياً لعمليات الإغاثة والمساعدات الإنسانية الآتية من عدد من دول العالم، التي يعدّ بعضها “حليفاً” لواشنطن، وبالتالي يجب أن تنطبق على هذا المطار المهم “الاستثناءات الإنسانية” الأميركية، وأن يخرج عن الخدمة بعد عدوان صهيوني عنيف يوم الثلاثاء 7 آذار/مارس.
وبين مسافة العدوان في كفر سوسة والاعتداء على مطار حلب الدولي، أقدمت الإدارة الأميركية على عدد كبير من الخطوات و”الاستثناءات” التي تظهر حقيقة مشروعها و”استثناءاتها” في سوريا، إلى درجة أن الأمر استدعى زيارة رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، مارك ميلي، إلى الشرق السوري آتياً من “تل أبيب”، وهو أرفع مسؤول أميركي يزور تلك المنطقة بشكلٍ علني ورسمي منذ بدء العدوان العسكري الأميركي على الأرض السورية في أيلول/سبتمبر 2014.
ولعل قدوم ميلي إلى الشرق السوري من كيان الاحتلال الإسرائيلي هو أول إشارة يجب أخذها بعين الاعتبار في هذه المسألة، خصوصاً أنها سبقت العدوان الإسرائيلي على مطار حلب الدولي بيوم واحد فقط، وخصوصاً أيضاً أن المتحدث الرسمي باسم ميلي أعلن أن الأخير ناقش مع رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، مسألة “تنسيق الدفاع ضد التهديدات الإيرانية في المنطقة”.
وإذا كان حي كفر سوسة السكني الدمشقي المدني قد شكّل بالنسبة إلى المحتلين الحليفين “تهديدات إيرانية” واضحة، فمن الأجدى أن يكون مطار حلب الذي يستقبل المساعدات الإنسانية للمنكوبين السوريين تهديداً “إيرانياً” صارخاً وخطراً جداً لسلامة الإمبراطورية الأميركية وقاعدتها العسكرية وأمنهما في فلسطين المحتلة، حتى لو لم يستقبل المطار أي طائرة إغاثة إيرانية في ذلك اليوم أو في الأيام التي سبقته.
في تلك الأثناء، وبينما كانت الدولة السورية تقوم بكل ما يمكن فعله لإيواء ضحايا الزلزال المدمر ومساعدتهم، كان “جيش” الاحتلال الأميركي يخرج دفعة من مقاتلي “جيش سوريا الحرة” (ما يدعو إلى السخرية والتقيؤ أن كل العصابات العسكرية التخريبية المأجورة التي تدربها الولايات المتحدة الأميركية في العالم لتدمير بلدانها وتقسيمها تحرص على نفحِها لقب: الحرة) في قاعدة “التنف” العسكرية.
يحمل ذلك إشارة أخرى إلى أهمية هذه القاعدة وهؤلاء المقاتلين العرب لمشروع الولايات المتحدة الذي يقضي بقطع الطريق على التواصل البري السوري مع العراق وإيران، وإطباق الحصار على سوريا من كل جانب، وبالطبع إفلات قطعان المقاتلين المرتزقة في البادية السورية ومنطقة المثلث الحدودي، جنباً إلى جنب مع مقاتلي تنظيم “داعش” الإرهابي الذي أفلتت القوات الأميركية عقاله في البادية بعد الزلزال مباشرة (في واحدة من أهم طرق الإغاثة الأميركية للسوريين) ليقتل ويأسر أكثر من 100 مواطن سوري خلال أقل من أسبوعين.
وكانت واشنطن أيضاً تزيد تعزيزاتها العسكرية في تلك القاعدة، بما في ذلك استقدام جنود وذخيرة مضادة للطائرات المسيرة، وذلك بعد تصاعد هجمات المقاومة على “التنف” في الأشهر الأخيرة.
وكانت الطائرات العسكرية الأميركية تلقي مناشير ورقية في البادية السورية، تعرض فيها على المواطنين السوريين مكافآت مالية مجزية في مقابل تزوديهم بمعلومات عن أماكن وجود طائرات مسيرة أو صواريخ.
كل هذا لا يشير فقط إلى عدم وجود أي نية لدى الإدارة الأميركية بسحب قواتها من سوريا، بل على العكس تماماً، إذ تدل الخطوات الأميركية الأخيرة، بما في ذلك زيارة مارك ميلي إلى “التنف” (التي وصفها بالمهمة والضرورية)، إلى تثبيت هذا الاحتلال، وتصعيد الاعتداءات، وتسعير المشروع باتجاه منع أي انفتاح عربي أو دولي على دمشق، وخصوصاً أن كارثة الزلزال فاجأت واشنطن وأزعجتها كثيراً، بعدما تحولت إلى بوابة لكسر بعض الدول العربية والعالمية الحصار على سوريا والعودة من النافذة الإنسانية.
لكن هذا ما لن تسمح به واشنطن التي وجهت رسائل مباشرة وغير مباشرة إلى تلك الحكومات تطلب منها كبح جماح هذه العودة، وخصوصاً بعد وصول عدد من المسؤولين العرب إلى دمشق تحت عناوين التضامن الإنساني والوقوف مع الشعب السوري في محنته هذه.
والجدير بذكره هنا أن زيارة ميلي التي شملت، إلى جانب كيان الاحتلال الإسرائيلي و”التنف” المحتلة، مصر والأردن أيضاً، لم تخرج عن سياق الضغط الأميركي على الدولتين العربيتين لوقف هذا الانفتاح على سوريا فوراً.
من جهة أخرى، بدا أنّ زيارة ميلي إلى الشرق السوري المحتلّ أعطت دفعاً معنوياً لأدوات الولايات المتحدة هناك، إذ احتفت مصادر “قسد” بالزيارة، وأعلن بعضها أنَّ ثمة خطة أميركية – كردية قيد التحضير لشن هجوم كاسح على ريف حلب الشمالي، لإعادة عفرين وجوارها إلى قبضة “الإدارة الذاتية”.
هذا “الدفع المعنوي” (وإن كان خادعاً) هو إحدى طرق الولايات المتحدة في منع هذه “الحلحلة” في الساحة السورية، ودفع الكرد إلى المضي قدماً في مشروعهم الانفصالي، وإبعادهم عن أي تواصل مع دمشق وموسكو، وبالتالي، إلى جانب كبح اندفاعة الخارج باتجاه سوريا، منع أي تسوية أو تفاهمات داخلية تفضي إلى حلول على الأرض السورية.
على الضّفة الأخرى، من المنتظر أن يتوجّه الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو أواسط هذا الشهر. ومن المتوقع، بحسب المعطيات المتوفرة، أن تأتي الزيارة معها بجديد على أكثر من جانب، وفي أكثر من ملف، وسيكون ملف مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية والتصعيد الأميركي على رأس تلك الملفات.
وثمة ما يشير إلى احتمال حدوث تغيير في طريقة التعاطي الروسية مع الاعتداءات الإسرائيلية، بالتنسيق الكامل مع طهران التي أعلنت مع دمشق في الآونة الأخيرة توريد أنظمة دفاع جوي إيرانية إلى سوريا.
إن العواصم الثلاث ترى أن الأميركي يواجهها معاً في كل الساحات، ومنها سوريا، وأن استمرار إستراتيجية “الصبر” لدى محور المقاومة، و”الحياد” بالنسبة إلى روسيا، ما عاد ممكناً، وخصوصاً أن الصراع في أوكرانيا ألقى بظلاله الثقيلة على كل الميادين، وعلى شكل العلاقات وعمقها بين روسيا والعالم، بما فيها العلاقة الروسية مع كيان الاحتلال الذي يتمادى يوماً بعد يوم في التورط إلى جانب حكومة كييف.
من جهة أخرى، وبينما تفعل الولايات المتحدة كل ما تستطيع لمنع أي حل أو انفراج أو انفتاح عربي أو دولي على سوريا، سيكون الملف السوري – التركي حاضراً بقوة على طاولة الأسد – بوتين، فيما تعمل طهران على خط العاصمتين دمشق وأنقرة بنشاطٍ هذه الأيام، للدفع قدماً باتجاه إعادة زخم التواصل والتنسيق لحل مسألة الشمال السوري بشروط دمشق الرئيسية والثابتة.
وتشير المعلومات هنا إلى قرب حدوث تطور كبير في هذا الملف قد يعلَن عن عناوينه بعد الاجتماع الرباعي، السوري – التركي – الإيراني – الروسي، المزمع عقده في موسكو الأسبوع المقبل أيضاً، أي في توقيت قريبٍ أو متزامن مع موعد زيارة الرئيس الأسد لموسكو.
لن تتوقف الولايات المتحدة، و”إسرائيل” تَبعاً وطبعاً، عن محاولات تفجير الوضع في سوريا، ومنع أي انفتاح قد يساهم في كسر الحصار الخانق عليها. ومن المؤكد أن الأيام والأسابيع المقبلة ستشهد تصعيداً على هذا المسار، لكن الحقيقة أنَّ ضفة المواجهة المقابلة ستشهد أيضاً نشاطاً سيسبق خطوات ومحاولات واشنطن بمسافة لا بأس بها، سواء على صعيد قواعد الردع والاشتباك مع العدوين الأميركي والإسرائيلي في قواعد المحتل الأول في الشرق، وفي مواجهة صواريخ المحتل الثاني، أو على مسار تقدم العلاقات بين دمشق وبعض العواصم العربية والعالمية.
ولعلَّ ما بلغنا حول مفاوضات يمنية – سعودية تجري في دمشق ذاتها هذه الأيام، وقد تفضي إلى الإعلان عن انتهاء الحرب في الفترة القريبة المقبلة، يكشف، إن كان دقيقاً (حيث لا إعلان أو حديث عنه على الإطلاق) مع غيره من التطورات التي ستظهر تباعاً خلال الأيام والأسابيع المقبلة على مختلف تلك الصعد، شكل المرحلة القادمة في سوريا والمنطقة، وتحقيق سوريا وحلفائها اختراقات كبيرة تضرب المشروع الأميركي في قلبه هذه المرة.
الميادين
إضافة تعليق جديد