ميشيل فوكو.. من الحفريات إلى موت الإنسان

24-11-2022

ميشيل فوكو.. من الحفريات إلى موت الإنسان

وليد ظاهري:

ميشيل فوكو فيلسوف فرنسي مع أنه يرفض تسميته بالفيلسوف لسبب يخدم مشروعه الفكري الرهيب في النصف الثاني من القرن العشرين، ولد فوكو سنة 1926 وتوفي سنة 1984، كان هذا الفيلسوف الأعمق بين فلاسفة القرن العشرين يرفض فكرة مركزية الذات والإنسان التي بنت عليها الوجودية وجون بول سارتر خاصة الوجودية والمذهب الوجودي، ولذلك هو يرفض تسميته بالفيلسوف لأن الفيلسوف هو تعيين لمركزية فكرية ما.. ويعتبر ميشيل فوكو فيلسوف السلطة بجدارة في القرن العشرين بمثابة توماس هوبز الفيلسوف الأنجليزي في عصر الأنوار، مع أن فوكو جاء بمفهوم للسلطة مخالف لهوبز وللمدرسة الماركسية وحتى لماكس فيبر الفيلسوف الألماني صاحب الرأسمالية والروح البروتستانية..

فبينما كان ينظر للسلطة كونها متعالية فوقية متمثلة في أجهزة الدولة المحتكرة للعنف وللقهر الذي يتحول أحيانا لقوانين، جاء فوكو وأعطى مفهوما آخر للسلطة كونها متواجدة في كل نواحي المجتمع ففي الأسرة هناك سلطة للأب وفي المدرسة وفي العيادة وفي السجن وفي حتى المؤسسات العلمية فكلها تعبر عن السلطة وتعمل لصالح الخطاب السلطوي السائد، فالسلطة وفقا لفوكو عادت أفقية بعدما كانت عمودية هرمية، وفوكو لم يأتي بهذه الفكرة من عنده بل هي تطوير لفكرة إرادة القوة التي تكلم عنها فريدريك نيتشه.. وتلك السلطة التي يتكلم عنها فوكو تعمل لتلبية رغبات الخطاب السائد في مختلف الحقب التارخية، فهناك عصر النهضة الأوروبي وهناك العصر الكلاسيكي أي عصر الأنوار وهناك العصر الحديث فلكل من تلك الحقب التاريخية خطاب سلطوي خاص بها، كما يؤكد فوكو القطيعة المعرفية بين كل تلك الخطابات والأطر المعرفية على عكس الماركسية مثلا التي ترى أن المجتمع يسير وفقا للصراع الطبقي لتولد طبقة أخرى جديدة فتحكم ثم تدخل فب صراع مع طبقة أخرى تناقضها وهكذا إلى غاية الوصول للشيوعية حسب ماركس، فإن فوكو يؤكد على القطيعة التاريخية بين مراحل حياة المجتمعات وقد أسهب في شرحها في كتاباته الوثائقية كتاريخ الجنون وتاريخ الجنسانية وتاريخ المراقبة والمعاقبة.

حسب ميشيل فوكو فإن التاريخ ليس مترابطا فيما بينه وإنما تحدث فيه إنقطاعات يتغير فيها الخطاب السلطوي بفعل الأفكار أو الٱكتشافات أو.. وهناك يحث فوكو على الحفر المعرفي
وضع ميشيل فوكو أداتين أو وسيلتين لمعرفة كيف تتشكل الخطابات السلطوية هما الحفريات المعرفية والجينالوجيا، فالحفريات تحفر فيما اختفى من مفاهيم وأفكار حين تولد الخطابات، والجينالوجيا تتبع الأفكار وتشكلها ببن مختلف الخطابات السلطوية.. بالمثال تتضح الأمور: كتب فوكو عن الجنون في العصر الكلاسيكي ووضح كيف تغير هذا المفهوم بين الحقب التاريخية فقد كان يعتبر إتصالا بالغيب في عصر النهضة وحينها كانت معاملة المجنون فيها نوع من التبجيل، أما في العصر الكلاسيكي فكان الجنون صفة قبيحة جدا وكان المجنون والسفيه والأحمق والمستهتر كلهم يوضعون في محتشدات وتسلط عليهم شتى أنواع العذاب والذل، وفي العصر الحديث الجنون أصبح مرض عقلي يوضع صاحبه في مصحة للعلاج..

هنا يتساءل ميشيل فوكو لماذا تغير مفهوم الجنون بين هذه الفترات كل هذا التغيير الجذري..؟! وكذلك لماذا تغيرت نظرة المجتمع للمجنون..؟! ويجيب فوكو بأن الخطاب السلطوي هو الذي تغير ففي عصر النهضة كان الدين مسيطر على الخطاب وبما أن الجنون صفة ليست قبيحة في الاعتقاد الكنسي (لأنها نوع من الإتصال بالغيب وبالمخفي) فعاملوا المجنون باحترام، أما في عصر الأنوار أصبح فقد أصبح العقل والروح العقلانية المسيطرة وبالتالي فإن المجنون هو فاقد للعقل وهو قبيح وغير إنسان، وفي العصر الحديث أين سيطر العلم وأثبتت الدراسات النفسية أن الجنون هو مرض يجب علاجه ككل الأمراض الأخرى.. وعله فحسب ميشيل فوكو فإن التاريخ ليس مترابطا فيما بينه وإنما تحدث فيه إنقطاعات يتغير فيها الخطاب السلطوي بفعل الأفكار أو الٱكتشافات أو.. وهناك يحث فوكو على الحفر المعرفي لمعرفة أسباب التغير تلك.

أما فكرة موت الأنسان التي بشر بها ميشيل فوكو فهي لا تعني الموت البيولوجي للإنسان بقدر ما تعني أن الإنسان سيصبح شيئا من أشياء الوجود بعدما كان في القديم ذاتا متعالية على المعرفة.. كيف ذلك..؟! كانت فلسفة رينيه ديكارت في القرن السادس عشر تعلي من الإنسان وتعتبر منفصلا عن الوجود فهو الذي يدرك الوجود ويحاول معرفته وتسخيره لصالحه، وسار الفلاسفة ما بعد ديكارت على ذلك حتى جاء الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط وضيق من اتساع المعرفة الإنسانية ووضع لها حدودا لا تتعداها، وحدد كانط ما هو الشيء الذي يمكننا معرفته والذي هو العالم الظاهري فقط.

أما العالم الميتافيزيقى فلا طاقة لنا بمعرفته ووضع كانط قوالب ومقولات يعمل بها العقل البشري لإدراك العالم مثل الزمان والمكان والسببية والكم والكيف وغيرها، فظهرت العلوم الإنسانية والاجتماعية بعد كانط في القرن التاسع عشر معتمدة على تلك المقولات التي هي آليات لعمل العقل البشري لإدراك العالم وفهمه، ولكن المشكل هنا أن الإنسان أصبح هو أيضا موضوعا من مواضيع الإدراك وبالتالي سنتعامل مع الإنسان كما تعاملنا مع ظواهر الوجود بإستخدام تلك القواعد والقوالب العقلية وهنا تظهر لنا المفارقة في كون أن المدرك أصبح مدركا، والعارف أصبح هو موضوع للمعرفة وتبعا لذلك مات الإنسان وأصبح شيئا من أشياء العالم، وهذه هي فكرة ميشيل فوكو حول الإنسان الذي مع تطور العلوم الإنسانية والاجتماعية سيصبح شيئا مجردا عن كل ما هو متعالي.
________
المصادر:
– نظام الخطاب، ميشيل فوكو، ترجمة د محمد سبيلا، دار التنوير بيروت 1984.
– الكلمات والأشياء، ميشيل فوكو، مركز الإنماء القومي، دار الفارابي.
– المراقبة والمعاقبة، ميشيل فوكو، ترجمة علي مقلد، مركز الإنماء القومي بيروت 1990

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...