صفحة من التاريخ

10-11-2022

صفحة من التاريخ

د. سامح عسكر:
عام 1926 اندلعت في المكسيك حرب أهلية استمرت ثلاثة سنوات راح ضحيتها ربع مليون شخص تقريبا من بينهم 60 ألف جندي مكسيكي، والسبب (ثورة دينية) من الكهنة الكاثوليك ردا على الدستور المُعادي للمسيحية سنة 1917م ..

كانت المكسيك تُوصَف بالدولة الملحدة بسبب هذا الدستور الذي كان يقضي بعقاب وسجن وإعدام كل من يظهر أي طقوس دينية أو صلاة أو ملابس للكهنة في الشارع، لدرجة منع الكنيسة نفسها من النشاط الديني ومن حقوقها في المحاكم.. وظل هذا الوضع حتى أوائل التسعينات

عُرفت هذه الحرب "بحرب كريستيرو" أو "لا كريستيادا" La Cristiada وظلت شاهدة على أن الحروب الدينية يمكن استدعائها في أي لحظة إذا توفرت الظروف لذلك، فلو كانت العلمانية تقضي بفصل الدين عن الدولة..فالذي حدث بالمكسيك هو قهر الدولة للكنيسة والحرب على إيمان الناس..فطبيعي أن يقوى رجل الدين ويحصل على شعبية لازمة تمكنه من التمرد على الدولة وحمل السلاح بدعوى (الدفاع عن الإيمان)..

جذور هذه الحرب بدأت من الثورة المكسيكية سنة 1910م ضد تزوير الانتخابات، وجاءت الثورة بالرئيس "فرانسيسكو ماديرو" (1873 -1913) الذي حكم عامين واغتيل سنة 1913 وخلال مدة حُكمه كان معاديا لرجال الدين، وأسس نظاما بهذا النحو هو الذي أدى لكتابة دستور 1917م بمواد معادية للكنيسة الكاثوليكية وتعاقب الناس على الشعائر وأي مظاهر دينية بالمطلق..ولفهم ظروف كتابة هذا الدستور فقد كان متأثر بالثورة المكسيكية أي كُتِب تحت مشاعر غضب معادية للكنيسة..

لكن الدين ولأنه راسخ جدا في النفس البشرية وجزء أساسي من التفكير والعقل، وهناك من يمارسه لأبعاد روحانية تعاطف الناس مع الكنيسة مرة أخرى ونجح رجال الدين الكاثوليك في كسب الشعبية والجماهيرية اللازمة لخوض حرب ضد الدولة، ظلت 3 سنوات حتى أدت بعد ذلك لتخفيف القيود المنصوص عليها في دستور 17 إلى أن انتهت تماما سنة 1992 وعادت الكنيسة الكاثوليكية مؤسسة قانونية ولم تعد الدولة خصما لإيمان الناس كما كانت متهمة من قبل..

لماذا أقول هذا الكلام ؟

في إيران تحدث الآن ظاهرة ثورية شبابية جديدة وهي (خلع عمامة رجال الدين بالقوة في الشارع) فمظالم رجال الدين كثيرة وحكم دولة الخوميني قاسي جدا ومتشدد في الحجاب الإلزامي ومحاكمة الناس على الرأي والاجتهاد الديني..فضلا على اغتيال الشهيدة "مهسا أميني هو الذي فجر هذه الأحداث..

إذا نظرنا لهذ المشهد من خارج الصندوق وأنه فعل ثوري يعبر عن تضخم الثورة الليبرالية وحصولها على شعبية سنرى أن بإمكان النظام الديني الإيراني القضاء عليه بمجرد قانون يعاقب على هذا الفعل ويتشدد فيه بدعوى أنه (إهانة لرجال الدين) أولا: بوصفهم مواطنين لهم حق الكرامة في الدستور، وثانيا: بوصفهم حكام يهيمنون على التشريع الإيراني، وهنا قوة رجل الدين الشيعي ستتعاظم بمجرد صدور هذا القانون ليتم تفسير (إهانة رجل الدين) أنه مجرد الاعتراض أو شتمه والتعدي عليه بالقول..

إذا ما الحل لكي ينجح الثوار الإيرانيون في القضاء على نظام خامنئي؟

الجواب: قلتها كثيرا أن الحل ليس هو العنف أو تصوير ثورة الشباب أنها معادية للدين ورجال الدين، هذه كانت أقوى حجة للخوميني في القضاء على نظام الشاة الذي كان عنيفا ضد رجال الدين الشيعة ويقتل المفكرين حتى الذين وصفوا بالتوسط بين الفكر الديني والليبرالي كالشهيد "علي شريعتي" (1933 – 1977)

العنف ضد رجل الدين هو الذي خدم الكهنة الكاثوليك في المكسيك بعد دستور 1917 وهو الذي مكّنهم من حصد الشعبية وحمل السلاح دفاعا عن إيمانهم، وربما يحدث في المستقبل نفس الشئ بإيران إذا شعر رجل الدين الشيعي الحاكم أن خطر هؤلاء الشباب ليس عليهم كأشخاص بل على الدين ومظاهره وطقوسه ..وقتها ستجتمع جحافل المؤمنين وقطيعهم الغاضب على رموز وعناصر هذه المظاهرات..

الثورة الإيرانية الليبرالية لكي تنجح لابد لها من شروط:

أولا: السلمية التامة وعدم ممارسة العنف..وغاية ذلك إشعار رجل الدين الحاكم بالأمان الكافي الذي يقنعه بالتنازل ولو على مراحل زمنية بالتدريج من جهة، ولتوحيد الصف الثوري الليبرالي من جهة أخرى، لكن الخلاف حاصل بين الناس في حكمة ممارسة العنف في الاعتراض، ومعنى حدوث هذا العنف يعني انشقاق بين المعارضين في تصور أسلوبهم الأمثل في التغيير..

الثاني: ضرورة وجود قائد ورمز سياسي أو روحي لهذه المظاهرات، لأن عدم وجود هذا الأمر تسبب (وسيتسبب أكثر) في حدوث فوضى وأفعال غير مدروسة كهذه الظاهرة العنيفة التي تخدم رجل الدين أكثر مما تُهينه، وسنرى أنه فور إقرار قانون يعاقب على فعل هذا الأمر إلى أي مدى ستصل شعبية رجل الدين الإيراني الذي سيقدم نفسه ليس بصفته حاكما للدولة..ولكن بصفته (مظلوم مضطهد) و (مدافع عن إيمان الناس) وهذه الصورة هي التي دفعت ملايين الإيرانيين في السابق لدعم الخوميني والثقة فيه ضد كل خصومه..

الثالث: تبرؤ الثوار أو إعلان بعضهم عدم التبعية لنظام الشاة بهلوي، فأولاد الشاه هم أحد محركي هذه التظاهرات بالسوشال ميديا ويدعمهم بعض الإيرانيين في المهجر، وضرورة براءة الثوار من نظام بهلوي حتمية لإنجاح المظاهرات وشرط أساسي لأن نظام خامنئي والثورة الإسلامية مستفيد من وجود بهلوي في الصورة، ويستعيد ذكريات حُكمهم التي كان يبغضها الإيرانيون في الماضي..

الرابع والأخير: استقلال هؤلاء الثوار الشباب سياسيا واتفاقهم على مسودة يعلنون فيها عدم التبعية لأحد من خصوم إيران إقليميا ودوليا، لأن النظام الإسلامي الحاكم مستفيد من تصوير جموع هذا الشباب الغاضب كعميل للأعداء وخصوم إيران التاريخيين، وفي هذه يستفيد النظام الإيراني من المشاعر القومية ، وسبق القول أن الذي خدم الثورة الإيرانية الإسلامية ليست فقط قوة الخوميني وضعف الشاة..ولكن لأنها جمعت بين مشاعر الفخر القومية الإيرانية – وخصوصا الفارسية منها – ومشاعر الفخر الديني بانتساب الإيرانيين لآل البيت، وفقدان المرشد لأحد أو هذين العاملين يعني فقدان سلاح حيوي كان يحميه من انقلاب الشعب عليه ووصولهم قصر الرئاسة مثلما حدث مع الشاة..

أكرر دائما أن السياسة لا تعرف العواطف..ولكي تفهمها لابد من التجرد قليلا واحترام الواقع، ودراسة الأفعال وجذورها التاريخية ومستقبلها، ونظرة بسيطة في التاريخ ىسنرى أن شعبية رجل الدين (الحاكم) تنقص إذا كان معارضيه أكثر عقلا ونزاهة وأكثر توحدا واجتماعا على صيغة معينة للاعتراض، بينما تعلو شعبيته إذا كان معارضيه أكثر تفككا وفوضوية ، وأكثر ممارسة للعنف وانشقاقا حول آليات هذه الممارسة وجدواها..

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...