لماذا كره تولستوي شكسبير إلى هذا الحد؟

13-03-2022

لماذا كره تولستوي شكسبير إلى هذا الحد؟

إبراهيم العريس:

كثيراً ما كان الكاتب الإنجليزي جورج أورويل يسأل نفسه في حيرة عما جعل كاتب الروس الكبير ليو تولستوي يكره شاعر الإنجليز الأعظم ويليام شكسبير ويستصغر شأن مسرحياته، متجاهلاً حتى شعره ولغته اللذين يعرف الإعجاب بهما، إلى حد الإفراط أحياناً، إجماعاً لا يلين؟

ومن المعروف أن أورويل توّج تساؤلاته تلك بدراسة طويلة كتبها حول هذا الموضوع ونشرها عام 1947 في مجلة "بوليميك" وجرّت عليه اتهامات بأنه إنما وقف مع شكسبير وعلى الضد من تولستوي، انطلاقاً من نزعة شوفينية بريطانية! غير أن من الصعوبة بمكان القبول بمثل هذا الاتهام. ففي النهاية، نعرف أن صاحب "1984" و"مزرعة الحيوانات" ختم تلك الدراسة برزانة طارحاً سؤالاً حائراً عما نتج في نهاية الأمر من كل ذلك الاحتقار الذي أبداه الكاتب الروسي الكبير تجاه سلفه الإنجليزي العظيم، قائلاً "بعد 40 عاماً مما كتبه تولستوي، لا يزال شكسبير صامداً في مكانته، لا يمكن أن يؤثر فيه شيء ولم يتبقَّ من محاولة تحطيمه سوى وريقات صفر تحتوي بياناً بالكاد قرأه أحد، وكان في الإمكان نسيانه تماماً لو أن تولستوي لم يكُن، هو نفسه، مبدع ’الحرب والسلام‘ و’آنا كارينينا‘".

غيرة عبر مئات السنين

لا شك في أن كل قارئ حصيف سيكون من شأنه بكل سهولة أن يشاطر أورويل رأيه هذا ويتساءل حقاً كيف عجز ذاك الذي يُعتبر من أعظم كتاب العالم وكبار مفكريه، أن يجد ما من شأنه أن يرضيه لدى زميله الذي يُعتبر واحداً من أكبر كتاب العالم على مرّ التاريخ. ولعل هذه المشاركة من شأنها، إضافة إلى الكيفية التي ختم بها أورويل دراسته، ممجّداً فيها تولستوي الروائي في معرض إدانته لتولستوي الباحث والناقد، أن تنسف ما اتهم به أورويل من نزعة شوفينية في "دفاعه" عن شكسبير، ولكن ربما لتعزز في طريقها تلك الفكرة التي يمررها أورويل في دراسته والمشيرة، ولو مواربة، إلى شيء من الغيرة كان يعتري تولستوي وهو "يحطم" صاحب "الملك لير" و"هاملت" وغيرهما، ساعياً للاستفراد دون شكسبير بمكانة يحتلها الأخير بوصفه كبير كتّاب العالم والتاريخ. ففي نهاية الأمر، وهذا ما يلمح إليه أورويل، لم يكّن تولستوي ليرضى بألّا تكون تلك المكانة خاصة به. لكن الحقيقة أن هذه الفرضية ستبدو اليوم مضحكة ولا ريب أن تولستوي كانت لديه أسباب أكثر عمقاً، لا بد من أن تُكتشف يوماً لتوضع الأمور في نصابها. أما هنا، فلعل حسبنا أن نتوقف، وبصورة إجمالية، عند هذا الفصل الذي يكاد يبدو اليوم منسيّاً من فصول تاريخ الحياة الأدبية خلال النصف الأول من القرن العشرين، علماً أن تولستوي وصل إلى ذروة هجومه على شكسبير عام 1903 قبل رحيله بأعوام قليلة حين كان في قمة مجده ومكانته، فيما علّق أورويل على ذلك الهجوم قبل سنوات قليلة هو الآخر من رحيله.

واختفى الارتباك

كتب تولستوي دراسته تحت عنوان "شكسبير والدراما" كنوع من التقديم لكتاب صدر في العام ذاته لإرنست كروسبي بعنوان "شكسبير والطبقات العاملة". أما أورويل، فحملت دراسته الأساسية في التعليق على ما ذهب إليه تولستوي عنواناً أكثر ظرفاً هو "لير، تولستوي والمجنون". وكان أورويل موفقاً حين انطلق في دراسته بشكل صادم، كاتباً: "يبدأ تولستوي بالقول إن شكسبير لم يثِر لديه طوال حياته سوى قدر كبير من النفور والسأم". وهو إذ كان مدركاً أن الرأي العام في العالم المتمدن لا يجاريه في موقفه هذا، بذل المحاولة إثر المحاولة لإعادة قراءة شكسبير مرات ومرات بالروسية كما بالإنجليزية والألمانية، ولكن من دون جدوى إذ كان يطلع في كل مرة بالنتيجة ذاتها وتتملّكه المشاعر ذاتها في خليط من الضجر والنفور والارتباك. واليوم، إذ بلغ الخامسة والسبعين من عمره، ها هو يعيد الكرّة ويعود إلى قراءة كل شكسبير من جديد بما في ذلك مسرحياته التاريخية و"لكني هذه المرة ومن دون أي ارتباك، واتتني المشاعر ذاتها وبقناعة صارمة مؤكدة بأن المجد الذي لا مراء فيه والقائم على الإيمان العام بالعبقرية التي يتمتع بها شكسبير والتي تحدو بكتّاب زماننا إلى محاكاته وبقرّاء هذا الزمن ومتفرجيه إلى اكتشاف مزايا له لا وجود لها أصلاً، هذا المجد الذي يشوّه كل فهم جمالي وأخلاقي، إنما هو شر كبير كما حال كل خطل ومغالطة".

لم يكُن عبقرياً!

والحال أن أورويل حين افتتح دراسته بمثل هذا المدخل الصادم للملايين كان يعتقد أن دراسته ستحرّك سجالات هائلة حول موضوع لا شك في أنه كان شائكاً جداً. لكنه واصل تحضيره للمعركة بشكل سيجعل منه بسرعة طرفاً في القضية، بحيث نجده ينقل مباشرة وأيضاً عن تولستوي أن شكسبير "لم يكُن عبقرياً بل لم يكُن حتى كاتباً متوسطاً" وهو، أي تولستوي، لكي يبرهن على هذا الحكم المبرم، سيتفحّص بخاصة مسرحية "الملك لير" التي يستند تولستوي إلى اثنين من كبار متخصصي أدب شكسبير (هازليت وبرانديس) ليذكر كيف أنها وبطريقة بالغة الغرابة، اعتُبرت على الدوام "نموذجاً على عظمة المسرح الشكسبيري". وهكذا يتحدث أورويل عن الكيفية التي لخّص بها تولستوي حبكة "الملك لير"، معيداً إلى الأذهان أن المسرحية إنما اقتبسها شكسبير من مسرحية حول الموضوع ذاته وشخصية الملك ذاته "في سرقة مفضوحة تمكّن عبرها شكسبير من أن يحطم المسرحية القديمة تحطيماً مؤسياً". وهكذا ينطلق تولستوي بتوجيه ثلاث تهم إلى سلفه الكبير: السرقة الأدبية، التحطيم المتعمد لعمل أدبي سابق عليه، ثم الأدهى من هذا: التشويه المتعمد لمسرحية يرى تولستوي اليوم أنها تفوق نسخة شكسبير قيمة ورفعة أدبية.

تهافت!

وفي الفقرات التالية، وبحسب ما يروي أورويل، ها هو تولستوي يحلل فقرات متنوعة وحوارات ومواقف من "الملك لير" كما أعاد شكسبير صياغتها، مبرهناً مع كل تحليل على تهافت المسعى الشكسبيري وضعف أدائه، برهنة يمكن في كل مرة أن تكون سيفاً ذا حدين في الوقت ذاته. لكنها لا تخلو، وبحسب أورويل بالطبع، من قدر كبير من سوء النية والحكم المسبق، ناهيك عن الانتقائية التي يرى أورويل أن تولستوي يستخدم مكانته في سبيل فرضها، بالتالي، تحطيم شكسبير بضربات قاضية، كما يُقال في عالم الملاكمة الذي من الطريف أن أورويل لم يذكره في هذه الدراسة التي بين أيدينا، لكنه وافق عدداً من نقاده بعد نشره دراسته وسؤال كثر عنها و"عما تحمله من فرضيات وحقائق"، على ما استنتجوه من أن تولستوي تخلى في خوضه تلك المعركة "غير المتكافئة" مع شكسبير الغائب عن السجال ليدافع عن نفسه، تخلى عن الروح الرياضية، بل حتى عن عاداته الأخلاقية التي لم تترك مكاناً لشائبة تؤخذ عليه ويؤاخذ عليها، ليخوض معركة من النوع المليء بـ"ضربات تحت الحزام".

ولعل هذا التوجه الذي أمعن أورويل في رصده وشرحه مستنداً طبعاً إلى التهافت البيّن في استنتاجات تولستوي، هو الذي جعل بعض قلة من نقاد وباحثين حاولوا الدفاع عن مواقف تولستوي، ولكن – والحق يُقال – عن غير اقتناع بالنظر إلى أن نص تولستوي كان يحمل كثيراً من التحامل مهما بدت فقرات فيه مقنعة من بعض الزوايا، جعلهم يتراجعون بسرعة، مفضلين الاستنكاف عن المشاركة في تلك "المعركة الشخصية بين عبقريين يفصل بينهما كل ذلك الزمن"، تمكّن أحدثهما من أن يستند إلى مكانته المعاصرة وقدرته "الثعبانية" على الإقناع لنسف سلف له لا حول له اليوم ولا طول!

معركة غير ضرورية بين عملاقين

ومهما يكُن من أمر، لا شك في أن تدخّل أورويل في المعركة في غياب طرفيها، لعب لصالح الطرف الإنجليزي على الضد من نظيره الروسي لتبدو المعركة في نهاية الأمر بين أمّتين، من دون أن يتوقف أحد طبعاً عند واقع أن تولستوي إنما ركز هجومه بشكل رئيس على واحد فقط من نتاجات شكسبير وكان يمكن مؤاخذته في هذه النقطة. لكن هذا كله صار جزءاً من التاريخ وربما من التاريخ المنسيّ لحسن الحظ. ففي نهاية الأمر، وكما ختم جورج أوريل، قائلاً "شكسبير هو شكسبير وتولستوي هو تولستوي" ولكل منهما لحظات عظمته وعبقريته وسقطاته، فما الهمّ إذا كان ثمة بعض السقطات في "الملك لير" وبعضها لدى تولستوي، صاحب "الحرب والسلم" و"آنا كارينينا" بين شوامخ أخرى؟
 

 الاندبندنت عربية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...