موقعة الزلّاقة: الأندلس تختار بين الجمال والخنازير
478هـ = 1085م، صَخَبٌ شديد ونقاشات حادة في المجلس الملكي بقصر المعتمد بن عباد ملك إشبيلية. سُحب الفَناء تتكاثف في سماء الأندلس، بعد أن أخذت حرب الاسترداد المسيحية الهادفة إلى طرد المسلمين نهائيًا منها، منعطفًا خطيرًا، بنجاح ألفونسو السادس، ملك قشتالة الإسبانية، في احتلال طُليطلة، عاصمة ملك القوط قبل الفتح الإسلامي، وإحدى أكبر الحواضر الإسلامية الأندلسية بعده. توعَّد ألفونسو المختال بانتصاره، كافة دويلات الطوائف الأندلسية بمصير طليطلة، وألقى في ساحة الأندلس بأكبر جيش مسيحي موحد شهدته منذ عهود، وبه مئات المتطوعين الصليبيين من أرجاء أوروبا.
رغم اعتراض معظم أبنائه ووزرائه، كان ابن عباد قد حزم أمره واعتزم أن يقامر بحياته ومُلكِه عوضًا عن أن يقامر بالأندلس. سيستدعي المعتمدُ، أكبر ملوك الأندلس، جيشَ الإمبراطورية المرابطية القوية، التي كان سلطانها يمتدُّ من تونس شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا وإلى غياهب غربيِّ أفريقيا جنوبًا.
أغلق المعتمد باب المناقشة، وقطع الطريق أمام ظنون القوم ومخاوفهم بقولٍ فصل، جاء صادقًا وحاسمًا:
لم تتأخر النجدة المغربية، إذ كان داهية الصحراء، ملك المرابطين يوسف بن تاشفين، على أهبة الاستعداد لتلك المهمة الدينية والحربية والسياسية الأخطر منذ تأسيس الدولة المرابطية. كان الرجل يراقب عن كثب ما آلت إليهِ أحوال الجارة الأندلسية من تدهورٍ، وقد تمزَّقت إلى أكثر من 20 دويلة متناحرة يتلاعب بها وبمصائرها مسيحيو الشمال.
لم ينقطعْ وصول الوفود الأندلسية الشعبية، من فقهاء الأندلس وأدبائها وتجارها، إلى بلاط مراكش، مستنجدين بالملك ذي الثمانين عامًا، ليخلّص الجزيرة المأزومة من العدو المسيحي المتربص، ومن حكامها الذين أفنوْا ثرواتها في حروبٍ أهلية ونزواتٍ عبثية في الوقت نفسه. لم يتعجَّل الشيخ الحكيم قطف الثمرة، قبل أن يصل نُضجها إلى الذروة، وقد كان.
فتِّش عن السياسة
عندما تترك الأمور تنزلق خارج سيطرتك دون أن تحرك ساكنًا، فإن الثمن سيكون فادحًا. لن تضيق مساحة الاختيارات المتاحة أمامك فحسب، بل ستجد نفسك تختارُ بين سيئ وأقل سوءًا.. وأسوأ. هكذا كانت الأندلس الإسلامية في منتصف دورة حياتها، في الربع الأخير من القرن الخامس الهجري، حيثُ كانت قاطرة تاريخها على قمة المنحنى الهابط، تبدأ رحلة سقوطها الحر التي انتهت بسقوط غرناطة (897هـ = 1492م).
الجيوب المسيحية من فلول دولة القوط التي ذوَّبها الفتح الإسلامي في أقل من عام أواخر القرن الأول الهجري، خرجت من مكامنها في جبال شمال إسبانيا الوعرة، وانساحتْ جنوبًا على مدار السنين لتحتلَّ كل فراغٍ يخلفه المسلمون، وأصبحت دويلاتٍ ثم دُولًا تقارع الوجود الإسلامي القوي في وسط وجنوب الأندلس. ساعدتهم مئات الفرص السانحة التي قدَّمها أمراؤها الغارقون في الطغيان والبذخ.
أما الدولة الأموية الأندلسية التي أسسها عبد الرحمن الداخل الملقَّب بصقر قريش، عام 138هـ، وحكمت كامل الأندلس الإسلامية لحوالي قرنيْن ونصف، فقد ديلَ عليها، وانزوتْ إلى ركنٍ مظلم في التاريخ. جاءت بداية النهاية بوفاة آخر حكامها الأقوياء، الحكم بن عبد الرحمن المستنصر بالله، عام 366هـ، وتركِه طفلًا صغيرًا هو هشام المؤيّد، وليًّا للعهد تتصارع من حوله مراكز القوى.
حسم الصراعَ الحاجبُ القوي المنصور بن أبي عامر الذي انفرد بصلاحيات الحكم، وترك للطفل الاسم دون الرسم. استمرَّت الدولة العامرية 30 عامًا، هي زمن حجابة المنصور (ت: 392هـ)، ثم ابنه عبد الملك (ت: 399هـ)، وصلت فيها الأندلس إلى ذروة اسثنائيةٍ من القوة رغم استبداد المنصور وطغيانه.
سقطت الدولة العامرية من عليائها عام 399هـ، بعد أشهرٍ قليلة من تولي عبد الرحمن بن المنصور الحجابة، وقد كان ماجنًا أحمق، تسبَّبت سياساته في أقل من 4 أشهر في اندلاع ثورة عنيفة في قرطبة ضد العامريين تزعَّمَها محمد المهدي، أحد أمراء البيت الأموي، وراح ضحيتها عبد الرحمن العامري، ونُهِبَتْ مدينة «الزاهرة» التي اختطَّها المنصور عاصمةً إدارية لحكومته، وسُكنى لكبار رجال دولته.
لم يكن المهدي على قدر المرحلة، وتنازع معه السلطة بعضُ الأمراء الأمويين، واستعان بعضهم على بعض بالدويلات المسيحية الشمالية في سابقةٍ خطيرة. تزامن مع تلك الأحداث المؤسفة انهيارُ السلطة المركزية في الأندلس، وغرقها، خاصةً العاصمة قرطبة، في الفوضى لحوالي 23 عامًا، انفجرت فيها كافة تناقضات الأندلس العرقية والجِهَويَّة والسياسية، وتخلَّلتها سنوات من سيطرة البربر على قرطبة، وقيام الخلافة الحمودية البربرية، ثم ثورة القرطبيين ضدهم عام 413هـ، وعودة الحكم الأموي في أشخاص المستظهر فـالمستكفي ثم المعتد بالله، وكانوا ضعفاء عاجزين حتى عن حماية أنفسهم؛ قُتِل الأولان، ونُفِيَ الأخير. انتهت الفتنة نظريًا عام 422هـ بإعلان أعيان قرطبة انتهاء الحكم الأموي للأبد وقيام حكومة الجماعة في قرطبة. هكذا، بدأ عصر ملوك الطوائف وانقسمت الأندلس إلى 20 دويلة متناحرة.
على الجانب الآخر، كانت الدويلات المسيحية الشمالية التي أنهكتها الغزوات الإسلامية، خاصة في عهديْ الناصر الأموي والمنصور بن أبي عامر، قد تنفسَّت الصعداء بانزياح الضغط الإسلامي، ونجحت محاولات بعض ملوكها كفرناندو الأول في تشكيل جبهة مسيحية موحدة في الشمال الإسباني بعدما أنهى حروبَه الأهلية، فوجه جيوشه جنوبًا لتثخن في مدن الثغور الأندلسية، فأذعن أكثر ملوك الطوائف وأعلنوا الخضوع لنفوذه ودفعوا الجزية، بل طلب بعضهم المدد منه ومن غيره من القادة المسيحيين في صراعاتهم على السلطة والنفوذ.
بعد عصر فرناندو الأول، وتقسيم مملكته بين أولاده، اندلعت الحرب الأهلية لسنوات في الشمال المسيحي حتى حسمها ابنه ألفونسو السادس، وكان يباري أباه في الكفاءة سياسةً وحربًا. ومن المفارقات أنه أثناء الحرب لجأ شهورًا إلى طليطلة، حيث أكرم حاكمُها وفادتَه، ودعمه بسخاء حتى استكمل الحرب ونال العرش.
الزلّاقةنشأت دولة المرابطين منتصف القرن الخامس الهجري بعد فورةٍ دينية في المغرب الأقصى تزعَّمها الفقيه عبد الله بن ياسين، وكان عالمًا عاملًا جمع حوله الأتباع، وكان جُل أتباعه الأوائل من قبيلتيْ لمتونة وكُدالة البربريتيْن. انساحَ ابن ياسين بالمرابطين بعد أن تكاثر عددهم، داعيًا فغازيًا في أنحاء المغرب الإسلامي وغربي أفريقيا، حيث سادت الفوضى والوثنية الدينية والسياسية، لينجح وخلفاؤُه، وأبرزهم ابن تاشفين، في تمكين دعوتهم بالدولة المرابطية القوية التي تقبَّلها معظم المغاربة لعدل قائدها وقوته. وها هي الأقدار تضعُ الأندلسَ في حِجرِها.
عام 479هـ = 1086م، عبر ابن تاشفين إلى الأندلس بآلاف من نخبة الفرسان والجُند المرابطية، بعد أن اشترط على المعتمد تسليم ولاية الجزيرة الخضراء، أقصى جنوب الأندلس، للمرابطين لتكون قاعدةً خلفيةً لهم، ولتضمنَ لهم السيطرة عليها ممرًّا آمنًا للعودة إلى المغرب إذا لم تسِر الأمور كالمراد.
قضى المرابطون أيامًا في تحصين الجزيرة الخضراء، وتثبيت مواقعهم بها، ثم تحرَّكت الجحافل المرابطية تجاه إشبيلية، ليستقبلهم ابن عباد خيرَ استقبال، ويتعانق الزعيمان ويتعاهدان على نصرة الإسلام والأندلس. أرسل ابن تاشفين إلى كافة ملوك الطوائف للمشاركة في الجهاد، فاستجاب أميرا غرناطة وبطليوس، وانضمَّا بكامل جيوشهما، بينما اكتفى الباقون بإرسال قوات رمزية وإمدادات، معتذرين بضعف قوتهم، ومتعهدين بالدفاع عن مناطقهم ضد الصليبيين، فقُبِل منهم ذلك. ثم انتقلت القوات المرابطية والأندلسية إلى بطليوس، حاضرة غرب الأندلس، انتظارًا لتكامل الحشد والاستعداد.
بلغت التطورات الجديدة ألفونسو السادس بينما كان منشغلًا بحصار سرقسطة، الثغر الشمالي الشرقي للأندلس، ففكَّ الحصار فورًا واتجه جنوبًا بكامل حشده لمواجهة الجيوش الإسلامية قبل أن تطأ أرض مملكته. تزامن هذا مع تفضيل ابن تاشفين انتظار الجيوش الإسبانية، لترهق نفسها في الرحلة الطويلة وتستنفد إمداداتِها، ولتستكمل جيوشه استعداداتها واستيعابَها لميدان المعركة التي سيجرُّ الإسبان إليه.
بلغنا يا أدفونش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا وتمنيت أن تكون لك سفن تعبر فيها البحر إلينا، فقد عبرنا إليك، وقد جمع الله في هذه الساحة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال.
من خطاب ابن تاشفين إلى ألفونسو قبل الزلاقة
عسكرت الجيوش الإسلامية في سهل الزلاقة قرب بطليوس، وعسكرت قوات ألفونسو على بعد بضعة أميال. اختلفت المصادر التاريخية في تقدير أعداد الجيشين بشكل لا يخلو من مبالغاتٍ بعيدة، لكن الراجح أن الكفَّتيْن كانتا متساويتيْن، وكل جيش كان بعشرات الآلاف.
أظهر ابن تاشفين حنكة كبيرة في التجهيز للمعركة، مثبتًا دهاءَه وبعدَ نظره، فجعل القوات الأندلسية جيشًا واحدًا، ووضعه في المقدمة، تدعمُهُ فرقة مرابطية محدودة. أراد يوسف أن يتلقى الأندلسيون الضربة الأولى لخبرتهم بحرب الإسبان، وكذلك خوفًا من فرارهم إذا كانوا في المؤخرة قرب بلادهم. فإن صمدوا، فبها ونعمت، وإن انهزموا، أنجدهم بقوته الضاربة الرئيسة. كذلك سيمكنه هذا التوزيع من ادخار نخبة فرسانه للالتفاف خلف خطوط العدو وقطع إمداداته وطعنه في خاصرته الضعيفة.
فجر الجمعة 12 رجب 479هـ = 23 أكتوبر 1086م، بدأت الملحمة. كما توقَّع يوسف، فرَّ الأندلسيون سوى المعتمد وجيوش أشبيلية التي أبلت بلاءً حسنًا وجُرِحَ قائدها، فزجَّ يوسف في الوقت المناسب بقوة رئيسة من المرابطين إلى أتون المعركة لتعيد التوازن. نجح المرابطون في تثبيت الاندفاع الصليبي، بعدما أشرفت مقدمتهم على اختراق معسكر القيادة الإسلامي.
في ذلك الوقت، التفّ ابن تاشفين بجمهرة من فرسانه، وصدم مؤخرة جيش ألفونسو، واحتلَّ معسكرهم، واستولى على ما به من ذخائر وإمدادات، ثم أحرقه. دبَّ الخلل في صفوف الإسبان وزاغتْ أبصارهم وهم يرون الدخان الأسود يحجب الفضاء من خلفهم، ويسمعون دويّ طبول المرابطين المرعبة يأتيهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
حاول ألفونسو اختراق صفوف المرابطين واسترداد معسكره لكنه باء بالفشل. ثم كانت القاضية عندما أقحمَ يوسف حرسَه الخاص إلى المعركة، فشتَّتوا صفوف الإسبان، ونجح بعضهم في إصابة ألفونسو. مع مغرب اليوم، كان السواد الأعظم من جيش ألفونسو بين صريع وأسير وهارب، وتقدر بعض المصادر أنه لم ينجُ منه إلى طليطلة إلا بضع مئات مع قائدهم الجريح، واستولى المسلمون على مقادير مذهلة من الغنائم.
ما بعد الزلاقة
على المستوى التكتيكي، كان انتصار الزلاقة هائلًا وفريدًا؛ لكن قيمته الإستراتيجية، وعلى مستوى المسار التاريخي العام للأندلس، لم تكن على نفس القدر. كان الأجدر بالجيوش الإسلامية مواصلة الزحف إلى أراضى قشتالة وانتزاع أحد قواعدها الكبرى، خاصة طليطلة، لتكون ترجمة واقعية للتوازن الجديد بالجزيرة، أو مطاردة ألفونسو حتى الإيقاع به.
عاد ابن تاشفين إلى المغرب بعد الزلاقة، خاصة وقد بلغته أنباء وفاة ابنه أبي بكر، خليفته في مراكش، لكنه احتفظ بالجزيرة الخضراء، وترك 3 آلاف فارس مرابطي بالأندلس. ما لبث ألفونسو أن استعاد نشاطه بعد أشهر، وأغارت قواته على شرقيّ الأندلس انطلاقًا من حصن الليط المنيع.
استصرخ الأندلسيون بيوسفَ مجدَّدا، فعبر عام 481هـ، وحاصر الحصن شهورًا حتى هلك الآلاف من الجند الإسبان المتحصنين به، لكنَّهُ اضطُرَّ لرفع الحصار قبل فتح الحصن وعاد للمغرب لما رآه من اختلاف قادة الأندلس. بعد رفع الحصار عن الحصن، فرَّ منه الناجون ليأسهم من المدافعة واستولى عليه المسلمون دون قتال.
أما النتيجة الأبرز للزلاقة، فكانت عندما حسم يوسف أمره، وقرر الاستجابة لمناشدات من داخل الأندلس وخارجها لضم الأندلس إلى سلطانه، لتعبر قواته للمرة الثالثة إلى الأندلس عام 484هـ، وخصمها هذه المرة حلفاء الزلاقة بالأمس القريب.
خلال أشهر، استولى المرابطون تباعًا على قواعد الأندلس، وأعانهم ملوكها على أنفسهم بمراسلتهم ألفونسو للاستعانة به ضد المرابطين. هزم المرابطون جيشًا أندلسيًا إسبانيا مشتركًا قرب حصن المدوّر، ليعجز ألفونسو بعدها عن التدخل، وتصبح الأندلس ولاية مرابطية بعد خطوب وملاحم.. ولكن لهذا قصة أخرى.
إضاءات
إضافة تعليق جديد