نفائس مغنَّاة أطلقتها «مريمية الشام» في عيد الكرسي الأنطاكي
قطعٌ من الروح أطلقتها من «مريمية الشام» حناجر ترنمت بنفائس، نبشتها ذاكرة تأصلت في مشرقيتها وخطّتها أيدٍ تجذرت في أنطاكيتها وتعتقت في وجودها لتنثر دررها شذى من تاريخ هذه الأرض وشهداً من عسل مبدعيها وعبيراً من عصارة قلب أنطاكية سورية مدينة الشرق الأولى في عيد هامتي الرسل بطرس وبولس مؤسسي الكرسي الأنطاكي اللذين حملا الكنيسة وحضناها وزرعا أبناءها شتولاً في أرضها الطيبة وخميرة في عجينتها المتجانسة..
من هنا، أقامت بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس في الكنيسة المريمية في دمشق أمسية موسيقية في هذه المناسبة أحياها كورال «الكنارة الروحية» بقيادة الشماس ملاتيوس شطاحي وبمشاركة الأوركسترا بقيادة المايسترو أندريه المعلولي وكتب مادتها التاريخية الدكتور جوزيف زيتون كما صممت ملصقها المميز ريم الخوري الذي تضمن صورة لدمشق القديمة في القرن الخامس عشر مع صورة تخيلية لأنطاكية الشهيدة التي دمرها الظاهر بيبرس عام 1268م. وصوراً عن الموسيقا البيزنطية يظهر شكلها من خلال النوتات الموسيقية البيزنطية ذات الأصول الروسية من خلال كبار مؤسسي ومعلمي هذه الموسيقا أمثال المطران أثناسيوس عطا الله والمرتل متري المرّ الذي نظم أول نشيد سوري عام 1920م. ونشيد الجيش العربي السوري ولحنهما وسجلهما بصوته وكان جيشنا السوري ينشده وهو يقاتل في ميسلون بقيادة البطل يوسف العظمة وقد ختمت به الأمسية بتوزيع كمال سكيكر.
افتتحت الأمسية بنشيد «بالله يا أنطاكية» وهو نشيد من التراث الأنطاكي وزعه موسيقياً ناريك عاباجيان وتم اختياره ليكون عنواناً لها، عن هذه الأمسية قال غبطة البطريرك يوحنا العاشر في كلمة ألقاها نيابة عنه الوكيل البطريركي المطران أفرام المعلولي:نجتمع اليوم في عيد الرسولين لنغرف من مبدعي أنطاكية شيئاً من شهد عسلهم الذي بلسموا به القلوب والأذهان ولنضرب قياثير عشقنا لتراثها وأعلامها لنجلو ما جادت به أشعارهم وأنغامهم وما خطه يراع قلبهم عشقاً لأرض وانتماء لكنيسة وحباً لحياة وتجذراً في مشرق دمغوه دوماً باسم أنطاكية فأنطاكية تاريخياً هي أنطاكية سورية وعاصمتها التاريخية، وهو اسم يضم تحت جناحيه مسيحية مشرقية ومسيحيين مشرقيين هم أبناء أصلاء لهذا المشرق العظيم نحن لا نعَيّر بقلة عددنا بل نوسم بفرادة دورنا، في دمنا تجري مياه هذا الشرق وفي قلبنا تخفق وهاده وجباله، نحن لا نتغنى بحبنا لأرضنا فحسب بل وبعتاقة وأصالة واستمرارية الوجود الذي نسمع شيئاً منه اليوم من خلال تراث أنطاكية الذي حفظه دير البلمند ومدرسته الإكليريكية وغيرهما..
عن الأمسية وبرنامجها يقول الشماس ملاتيوس شطاحي قائد الكورال
تختلف هذه الأمسية عن سابقاتها بأنها تسلط الضوء على التراث الأنطاكي الكنسي منه والشعبي كما تسلط الضوء على الأعلام الموسيقيين الذين مروا في تاريخ الكرسي الأنطاكي وأهم ما قدموه للكنيسة والوطن نذكر منهم: «البروتوبسالتي» أي «المرنم الأول» متري المرّ والمطران أبيفانيوس زايد والمطران أثناسيوس عطا الله والأب ميشال سابا المستمر في عطائه والرحابنة، وتضمن برنامجها مجموعة من الترانيم والأناشيد والقصائد نذكر منها: بالله يا أنطاكية، أنت سورية بلادي، دمشقيات، افرحي يا بيت عنيا، أعطني هذا الغريب، ما غاب جمالك عن بشر، يا بلادي يا بلادي..
أما المايسترو أندريه المعلولي قائد الأوركسترا وعميد المعهد العالي للموسيقا فتحدث عن مشاركة الأوركسترا في الأمسية قائلاً: ترافق الأوركسترا هذه الجوقة المتميزة للمرة الخامسة في خطوة جريئة باركها صاحب الغبطة، محورها دمج الموسيقا الآلية مع الموسيقا البيزنطية التي لا تستخدم الآلاف الموسيقية وهذا نوع من التجديد مع الحفاظ على الأصالة وعلى قواعد الموسيقا البيزنطية من دون مسّ بقدسيتها، وستبقى هذه الأعمال بقعة مضيئة في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية تحديداً، والأمسية اليوم لها خصوصية فقطعها شرقية بحث تم توزيعها على آلات شرقية تتناسب مع القصائد والأغاني والأناشيد المقدمة، وفي كل مرة كانت الفكرة تتطور لتناسب الأمسية واضعين بالحسبان أن ناظم الموسيقا البيزنطية هو القديس يوحنا الدمشقي وتالياً نحن أحق من يظهر هذا الشيء ويقدمه للعالم في بلد مملوء بالحضارة خطوة نحو تطوير الفكر وسبيلاً إلى تطوير الموسيقا.
عن هذه الأمسية ومضمونها تحدث الدكتور جوزيف زيتون مسؤول المكتبة في الدار البطريركية وكاتب المادة التاريخية للأمسية فقال:
لقد أغنى عباقرة الإيمان المستقيمي الرأي الكنيسة الأرثوذكسية بعامة والأنطاكية بخاصة بأشعار وألحان ترنم لها التاريخ، وطربت لها حضارة الإنسان، والأسماء أكثر من أن تحصى في أمسية، فأتينا اليوم لنغرف من عبق التاريخ باقة إبداع لبعض من عمالقة الروح الذين عمدوا جغرافية أنطاكية بالموسيقا ومن هذا المكان تحديداً فالكلام من «مريمية دمشق» ليس حدثاً تاريخياً فحسب ولا يمكن حده بجغرافية الموقع.. هو كلام عن عراقة وقداسة شاءالله أن يَسِمَ بها شامنا لتكون منطلقاً لكنيسته في كل العالم.وعن الموسيقا البيزنطية تكلم الأب الدكتور يوحنا اللاطي قائلاً:
في الموسيقا، مع كل لحن يُخلق شعور جديد في الروح كي تتألق، وكما تنظمت الخليقة تكوينياً بالصوت كذلك يكتمل خلق الروح بالموسيقا، وموسيقانا الكنسية تقوم على هذا المبدأ الخلاق، لقد عاشت كنيسة أنطاكية في إيقاع الألوهة منذ أكثر من ألفي عام ناظمة صلاتها شعراً وأدباً مسبوكين في موسيقا فاتنة وأنجب رحمها الموسيقي إلى الوجود مئات الوجوه الفذة قديماً وحديثاً واليوم يأتي كورال «الكنارة الروحية» ليمتد في الحداثة مبدعاً لنا من عتيق تاريخنا جدة حاضرنا وليقدم مع الأوركسترا أعمالاً على وقع عباقرة اللحن الأنطاكي.نقول بدورنا مباركة هذه الجهود التي تعمل بإخلاص رامية إلى إحياء تراث وتأكيد انتماء وإظهاره إلى النور بتميز وفرادة ومباركة تلك الأنامل التي تعزف والحناجر التي تصدح معلنةً في عيد هامتي الرسل أن الكرسي الأنطاكي سيبقى راسخاً في سورية ومكرماً فيها رغم كل دمار ألمّ بالكنيسة الأنطاكية.
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد