«سيدهارتا» لهرمان هيسّه: نحو امتزاج مطلق بين الروح والحياة
رواية أم قصيدة شاعرية طويلة من النمط الذي لم يعد يُكتب منذ زمن بعيد؟ نصّ فلسفي في الحكمة والتأمل أم كتاب في التعاليم الدينية؟ سيرة ذاتية مواربة أم صياغة لمجموعة من أسئلة شائكة وجد الكاتب نفسه يراكمها عاماً بعد عام في واحدة من المراحل الأكثر صعوبة في حياته؟ كتاب في الإستشراق أم محاولة مواربة للرد على مجموعة من الأفكار الإستشراقية التي كانت سائدة في الحقبة التي كُتب هذا النص فيها؟ في الحقيقة أن الإنصاف يقتضي منا أن نؤكد أن النصّ الذي نتحدث عنه هنا ونطرح كل هذه الأسئلة من حوله، هو كل هذا في آن معاً، إضافة الى ما نفترضه من أنه محاولة -ناجحة على أي حال- من الكاتب لمحاكاة ذلك النص الذي كان مالئ الدنيا وشاغل الناس عند بدايات القرن العشرين «هكذا تكلم زرادشت» لنيتشه. مهما يكن من أمر فإن هرمان هيسّه، الكاتب الألماني الكبير خلال النصف الأول من القرن العشرين، وصاحب كتاب «سيدهارتا» الذي نتناوله هنا، لم يكن حين وضع هذا النص أواخر العقد الثاني من القرن العشرين، بعيداً من التفكير النتشوي. لكنه بالتأكيد كان أكثر انفتاحاً على العالم وأكثر إنسانية وبالتأكيد أكثر شاعرية في لغته وأسلوبه. ومن هنا جاء «سيدهارتا» في المقام الأول نصّاً أدبياً شاعرياً وعملاً روائياً، فيما جاء كتاب نيتشه نصاً فلسفياً قبل أن يكون أي شيء آخر. ومن هنا يمكن القول إن من بين كل الكتب التي تنتمي الى «زرادشت» نيتشه وجاءت في غالبيتها محاكية له، يبرز كتاب هيسّه كمعادل وليس كشبيه. وربما أيضاً يبرز كنوع من الرد عليه لكن هذه مسألة لا سبيل الى التوقف عندها في مجالنا هنا.
> ما نتوقف عنده هو هذا النصّ الجميل والفريد الذي أنجزه هرمان هيسّه على مرحلتين يمكن القارئ المدقق أن يدرك الفارق بينهما بدقة: مرحلة أولى كان الكاتب فيها مرتاحاً لأفكاره عازماً على التعبير عنها في نص روائي متحرك لا تتوقف شخصياته عن الحركة والبحث. ثم مرحلة ثانية يبدو أن أزمة روحية ما عصفت بالكاتب فيها فجعلته يتوقف عن الكتابة ردحاً ليعود ويستأنفها ولكن في نفحة خلاصية تأملية عبّر عنها من خلال سكون دينامية الشخصيات وانصرافها الى تأمل أحوالها ووصولها الى استنتاجات روحية تحمل الخلاص مقابل قلق الروح.
> وبالتالي إذا كان لنا أن نتعامل في القسم الأول من «سيدهارتا» مع هذا النص على أساس غلبة نزعته الروائية التي تصل أحياناً الى حدود السرد البيكاري وحكاية المغامرات، لا بد لنا من الهدوء في القسم الثاني والغوص مع بطل الرواية في تأملاته ووصوله الى الحكمة، وتحوّله من منفعل بأفكار الآخرين الى موجّه لها. ويخيّل الينا هنا أن هذا البعد لم يكن وارداً في المخطط الأصلي للنص، ما يجعل «سيدهارتا» في شكل ما نوعاً من «العمل قيد التحقّق».
> ولكن عمّ تتحدث «سيدهارتا» بعد كل شيء؟ كما هو واضح، عن شخص يعيش في واحد من أقاليم نيبال المتاخمة للهند والتي كان هرمان هيسّه يعرفها جيداً. وهذا الشخص هو بالتحديد ذاك الذي نعرفه باسمه المؤلف من مقطعين يعنيان معاً «الذي فتّش ووصل» - وليس من الصدفة أن يكون هذا هو نفس الإسم الأصلي لبوذا... ففي نهاية المطاف كل شيء هنا رمزي ويحمل دلالته. المهم أن سيدهارتا الشاب الذي كان في إمكانه ان يعيش الى الأبد في كنف عائلته مرتاحاً، يقرر ذات يوم أن يرتحل بحثاً عن الحكمة والنور كواحد من أولئك «المتسولين» الجوالين الزاهدين. وهو يصحب معه في تجواله صديقه غافندا الذي يعبر في صحبته تضاريس الطبيعة والقرى بحثاً عما يسعيان الى الحصول عليه فيغيّر حياتهما. وهكذا يدخلان أول الأمر غابة يلتقيان فيها عدداً من الحكماء الذين يحاولون تلقينهما دروس التقشف والزهد والتخلي عن متاع الحياة الدنيا والصوم والصلاة الى آخر ما هنالك. بيد أن هذا كله لن يقنع بطلنا الشاب الباحث عما هو أكثر من ذلك بكثير، حتى وإن لم يكن واضحاً بالنسبة اليه كنه ذلك «الكثير» الذي يشغل منه البال. وهنا يلتقيان شخصاً يشع النور والحكمة من وجهه... وسيتبين لهما انه هو نفسه بوذا ويشعر سيدهارتا لحظتذاك بأن هذا الرجل السامي سيكون هو موجّهه الى درب الحكمة الفضلى التي يتطلع اليها. غير أن المفاجأة كمنت في أن بوذا هذا لم يكن مستعداً لتعليمهما اي شيء. بالنسبة اليه كل شيء وكل فكرة وكل تصرف إنما هو ماثل في داخلهما وليسا في حاجة لأن يأخذاه عن أحد. فقط في اتكالهما على تجربتهما الخاصة وتفاعلهما مع تلك التجربة سيكون خلاصهما والعثور على ما يريدانه.
> بالتالي، فإن المطلوب من سيدهارتا هنا أن يفصل نفسه تماماً عن كل ما ينتمي الى فكرة الإنزواء ليصل بدلاً من ذلك إلى إذابة روحه كلياً في العالم... في القبول المطلق بكل ما تحيل التجربة اليه. وفي الإندماج في الحياة كي يتم تجاوزها الى ما هو أسمى منها. وعلى ذلك النحو يخرج سيدهارتا من الغابة عابراً النهر ليصل الى المدينة حيث عليه أن يسلك درب حياة البشر العادية، وذلك هنا بفضل المحظية الحسناء كومالا التي سيقول انه لم ير امرأة تفوقها حسناً في العالم. وهو هنا، -إضافة الى ارتباطه بهذه الحسناء التي سيكتشف لاحقاً وبعد فراقهما وتحولها هي الى راهبة بوذية، انها قد انجبت منه صبياً-، سيرتبط أيضاً بالتاجر كاماسفاني. ومع هذه الرفقة والتطورات الدنيوية التي عاشها بطلنا في المدينة سيبدو واضحاً انه بات على وشك الضياع. فالطمع صار من سماته وأخلاق التجار باتت طاغية عليه. وصار من السهولة بمكان أن يلاحظ هنا أنه بدأ يهرم بسرعة، لكنه كان يعرف جيداً أن تلكم هي التجربة التي يجدر به أن يعيشها كي يصل الى الحكمة والى الإشراق. هكذا وجهه الحكيم بوذا وهذا ما سيفعله. وكانت النتيجة أن تلك الحقبة التي أمضاها وسط المدينة والتي كان من شأنها أن توصله الى الضياع، كانت هي ما أوصله الى الحكمة. بالتالي إذ استشعر بنفسه الوصول الى مفترق الطرق وأن تقدمه في السن يقربه من الرحيل عن هذه الحياة الدنيا، ترك المدينة وكومالا وشريكه وعاد الى النهر، رمز الخلود والأبدية، ليعيش هناك بقية عمره وقد تزين بالحكمة. لكنه في الوقت نفسه تغير تماماً الى درجة أن رفيقه القديم غافندا حين عاد ليلتقيه بعد فراقهما ويسأله عن أحواله، بالكاد تعرف عليه... لكن لقاءهما كان ضرورياً وحاسماً حتى بالنسبة الينا، نحن معشر القراء، اذ بعدما كنا قد تماهينا مع سيدهارتا غير مدركين حجم التغيرات التي طرأت عليه في طريقه لبلوغ مرتبة الحكمة والإشراق المطلقين، كان لا بد من نظرة غافندا لكي ندرك ذلك الحجم. لكن اللقاء بهذا الأخير لن يكون الوحيد الذي سيختبره سيدهارتا في موقعه على ضفة النهر، إذ ذات يوم أيضاً سيصل اليه ذلك الشاب الوسيم الذي سيتعرف فيه على ابنه من كومالا... ولكن هذا الفتى سيعرضه لتجربة تختبر مقدار الحكمة التي توصل اليها: فحين سيقرر الفتى مفارقة ابيه والتوجه الى حيث سيعيش تجربته الخاصة، سيضطرب سيدهارتا ويبدأ بالإحتجاج، لكن رجل النهر السابق، والذي يحلّ بطلنا مكانه، سينبهه الى أن عليه أن يترك الفتى كي يعيش تجربته الخاصة كما فعل هو نفسه ذات يوم...
> في هذه الرواية/القصيدة التي تعتبر من أجمل وأقوى نصوص هرمان هيسّه (1877 - 1962) عرف صاحب «لعبة الكريات الزجاجية» و «ذئب البوادي» و «دميان» وغيرها من نصوص رائعة منحته جائزة نوبل للآداب، عرف كيف يقدم واحداً من نصوصه الأكثر ذاتية. وربما النص الأكثر واقعية وإنسانية من حيث دعوته الى التجربة الإنسانية بديلاً عن العزلة التأملية. فالحقيقة أن المثل الأعلى الذي يعبر عنه هيسّه هنا إنما هو الوصول الى نزعة إنسانية تتمكن من أن تمزج في داخلها كل أشكال الحياة بما في ذلك المزج المطلق بين النزعة الروحية القصوى والحيوية الأخاذة. وكان هذا الفكر في الواقع جديداً على أوروبا في ذلك الحين.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد