خطة فيينا: الشيطان في التفاصيل
يوم الخميس كان الفرنسيون، وأصدقاؤهم، في فيينا يقولون صراحةً لن نرضخ للروس وسنتركهم يتورطون أكثر في سورية إلى أن يأتوا إلينا بحثاً عن الحل. وبالفعل دُعمت هذه الأقوال بالأفعال حين جرى الاتفاق، بدون أخذ رأي روسيا، على تشكيل لجان فرعية في فيينا، وتوجيه الدعوة فقط للائتلاف السوري المعارض، ولمن يرضاه هذا الائتلاف من المعارضين الآخرين، للمشاركة في المفاوضات مع الحكومة السورية، إضافةً إلى توجيه الدعوة لدول أخرى، مثل بولندا واليابان، للانضمام إلى المفاوضات في فيينا. وهذا ما اعتبرته روسيا محاولةً للالتفاف على مبادرتها السابقة، فغادر الدبلوماسيون الروس الاجتماع، واعتقد الجميع أن مسار الحل في فيينا قد نسف تماماً. ثم كانت عمليات باريس مساء الجمعة. في اليوم التالي، يوم السبت، خرج الحضور في فيينا فجأةً بخطة عمل جديدة لإنهاء الأزمة السورية. وعلى عكس بيان فيينا ذي النقاط التسع وبيان جنيف ذي النقاط الأثنا عشر، جاءت خطة العمل نصاً إنشائياً من ألف كلمة بدون بنود مفصلة، وبتداخل واضح بين ما يفترض أن يكون تسلسلاً منطقياً لخطوات الحل. يمكن تلخيص خطة العمل، كما وردت في البيان، كما يلي: (1) وقف إطلاق نار يدخل حيز التنفيذ ما أن تبدأ الخطوات الأولى للحكومة والمعارضة السوريتين نحو «الانتقال» وفق مقررات بيان جنيف، (2) يضمن وقف إطلاق النار بعثة من الأمم المتحدة تنتشر فقط في الأماكن التي لا تكون فيها عرضة للإرهابيين، (3) تتعهد الدول الحاضرة في فيينا للقيام بكل ما هو ممكن للضغط على الأطراف المعنية لحصول وقف إطلاق النار، (4) لا يشمل وقف إطلاق النار العمليات الدفاعية أو الهجومية ضد داعش والنصرة وأي مجموعة يتم الاتفاق على تصنيفها كمجموعة إرهابية، (5) تقديم مساعدات إنسانية عاجلة، (6) تحقيق ظروف تسمح بعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، (7) المطالبة بالوقف الفوري لاستخدام الأسلحة العشوائية ضد المدنيين، (8) تطبيق قرارات مجلس الأمن المتعلقة بوقف التجارة غير الشرعية للنفط والآثار التي يستفيد منها الإرهابيون، (9) تلتقي الحكومة السورية والمعارضة للتفاوض بشكل رسمي في أقرب فرصة، والتاريخ المقترح هو 1 كانون الثاني 2016، (10) يختار السوريون وحدهم ممثليهم للتفاوض، (11) خلال ستة أشهر يتم تشكيل «حكم» سوري ذو مصداقية وجامع وغير طائفي ويتم وضع جدول لصياغة دستور جديد، (12) تقام انتخابات حرة وعادلة خلال 18 شهراً من إقرار الدستور الجديد، وبإشراف الأمم المتحدة وبمشاركة جميع السوريين، (13) يجب القضاء على داعش والنصرة وجميع المجموعات التي يتم الاتفاق على تصنيفها كمجموعات إرهابية. برغم التفاؤل الكبير الذي استقبلت به هذه الخطة، إلا أن التمعن في تفاصيلها يظهر أن كل تفصيل منها يحتاج إلى خطة ومفاوضات خاصة به. البداية مع وقف إطلاق النار الذي يفترض أن يطبق مع بدء الخطوات الأولى للانتقال وفق جنيف، فهل هذا يعني أن وقف إطلاق النار يبدأ مع جلوس الحكومة والمعارضة للتفاوض، أي بعد شهر من الآن، أم مع تشكيل الحكم الجديد، أي خلال ست أو سبع أشهر من الآن، أم مع بدء صياغة الدستور الجديد؟ وهل يمكن أن تبدأ المفاوضات، وتنجح، بدون وقف إطلاق النار أولاً؟ وكيف يمكن أن ينتشر مراقبو الأمم المتحدة فقط في المناطق التي لا يوجد فيها إرهابيون، إذا كانت مهمة تحديد من هم الإرهابيون مؤجلةً حتى إشعار غير محدد؟ وهل يوجد في سورية، في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة، مناطق جغرافية محددة لا يرفع فيها راية داعش أو جبهة النصرة؟ قد تكون مناطق الأكراد، في الشمال الشرقي، هي الاستثناء الوحيد، ولكن هؤلاء غير مذكورين صراحةً في خطة العمل أساساً. ثانياً، يفترض أن يختار السوريون ممثليهم للتفاوض، ولكن لو كان هذا ممكناً أساساً فما كان داعي هدر أسابيع من التفاوض في فيينا حول قوائم المعارضة لو كان من الممكن للسوريين وحدهم أن يتفقوا على ممثليهم؟ ثالثاً، لم تتلافى خطة العمل الغموض الذي ظهر في بيان جنيف 2012 حول تشكيل «هيئة حكم انتقالية» transitional governing body ، فخطة عمل فيينا تتحدث عن تشكيل «حكم» governance وليس «حكومة» government والفرق بين الاثنين يحتاج إلى خبراء قانونيين لتوضيحه بشكل تام، ولكن يمكن القول باختصار أن تعبير «حكم» يشير إلى عملية الحكم بحد ذاتها ومجموعة القرارات والإجراءات التي تعكس التوقعات الاجتماعية وماشابه ولا تشير إلى حقائب وزارية أو مناصب إدارية يتم تقاسمها. إضافةً إلى أن عبارة حكم غير طائفي تحتاج لنقاش مطول. فما هو الحكم غير الطائفي؟ هل هو الحكم الذي لا يكترث بالخلفية الطائفية للمشاركين في الحكم أو هو الحكم الذي يضمن عدم تغييب بعض الطوائف أو إعطائها أقل أو أكثر من حصتها في الحكم، وهل يقصد من هذه العبارة تلافي أخطاء حكم طائفي سابق أم تلافي ولادة حكم طائفي؟ رابعاً، بالرغم من تحديد فترة ستة أشهر كفترة لتشكيل «حكم» جديد وإجراء الانتخابات خلال 18 شهراً من إقرار الدستور الجديد، إلا أنه لا يوجد قيود زمنية واضحة تحدد متى يجب الانتهاء من صياغة الدستور الجديد. ما هو محدد صراحةً هو أن البدء بصياغة الدستور يجب أن يكون خلال الأشهر الستة الأولى. إضافةً إلى أنه لايوجد أي تحديد لنوع الانتخابات التي يتم الحديث عنها: هل هي رئاسية أم برلمانية أم الاثنين معاً؟ خامساً، وبالإضافة إلى هذه التفاصيل التي أصبحت مألوفةً لكل من يتابع تعقيدات الوضع السوري، أضافت خطة العمل تفصيلين إضافيين مريبين، لم يكونا موجودين لا في بيان جنيف ولا في بيان فيينا. التفصيلي الأول هو العمل على خلق ظروف تسمح بالعودة الآمنة للاجئين السوريين إلى بلادهم وفقاً لقواعد «القانون الدولي الإنساني» وبما يضمن مصالح الدول المضيفة. ومع ظهور أن واحداً على الأقل من منفذي اعتداءات باريس قد دخل الاتحاد الأوروبي بصفته لاجئاً من سورية، ومع تأزم النقاش داخل الاتحاد الأوروبي حول استقبال اللاجئين من سورية، تصبح هذه الفقرة في خطة عمل فيينا مثيرة للقلق، فكيف ستجد تطبيقاً لها؟ في خلق مناطق آمنة ليقيم بها اللاجئون في الشمال السوري كما نشرت صحيفة «يني شفق» التركية مؤخراً؟ التفصيل الثاني هو الضغط للوقف الفوري لاستخدام الأسلحة العشوائية والمقصود هنا بالدرجة الأولى ما تصفه الدول الغربية «بالقنابل البرميلية» أو «البراميل المتفجرة» وقد كانت فرنسا قد أعلنت أنها تعد مسودة قرار في مجلس الأمن لحظر استخدام البراميل المتفجرة. فهل إضافة هذه الفقرة في خطة عمل فيينا هي تمهيد للمضي قدماً بتبني القرار الفرنسي في مجلس الأمن؟ وإذا ما كانت خطة العمل تطرح أساساً وقفاً لإطلاق النار بين جميع الأطراف فما هو مبرر التركيز على «الأسلحة العشوائية»؟ إلا إذا كان المطلوب هو وضع لغم لتفجير خطة العمل هذه لاحقاً بحجة أن الجيش السوري يستخدم أسلحة محظورة. باختصار، بأخذ الظروف الدولية التي صيغت فيها خطة العمل في فيينا، وبتمحيص التفاصيل الواردة فيها، لا يبدو أن هناك حيزاً كبيراً للتفاؤل المنطقي. وإذا ما كان واضعو خطة العمل هذه يستشعرون حساسية الزمن، فلماذا يتم تأجيل مباشرة التفاوض بين الحكومة والمعارضة حتى مطلع العام؟ هل هو تأجيل في انتظار حدوث ما يعيد عقارب الساعة إلى الوراء ويعيد تمييع الحل؟ ما حصل في فيينا هو محاولة من الحاضرين لرفع المسؤولية عن أنفسهم وإلقائها على طرف آخر، وهو السوريون حكومةً ومعارضةً.
محمد صالح الفتيح: ميسلون
إضافة تعليق جديد