الدين والتنوير في التقليد المثالي الألماني
تقدم المثالية الألمانية نموذجاً للعقلانية الدينية نراه الأنجع في تجسير الهوة بين الدين والتنوير قياساً إلى تقاليد الفكر الغربي الذي يرى في مسار الألوهية محاولات إنسانية متوالية لخلق أشكال تصور للمقدس، أكثر ملاءمة للحظة المعاشة. فتعدد أنماط تصور الله هو وحده القادر على جعل الدين شعوراً متقداً، حتى لا يتحول إلى مجرد مظهر خارجي جامد. وهو الفهم الذي عبر عنه بجلاء «غوتولد لسنج» (1729 - 1781) مشدداً على أن متعة الإنسان لا تنحصر في امتلاكه الحقيقة، وإنما في الجهد الذي يبذله من أجل العمل على بلوغها، لأن ملكات الإنسان لا تنمو بامتلاك الحقيقة، بل بالبحث عنها، حيث امتلاك الإنسان الشيء يميل به إلى الركود والتكاسل والغرور، وقائلاً على نحو مباشر: «لو أن الله وضع الحقائق كلها في يميني، ووضع في يساري شوقنا المستمر إليها - وإن أخطأناها دائماً - ثم خيرني، لسارعت إلى اختيار ما في يساري، قائلاً له: رحماك يا الله، فإن الحق الخالص لك أنت وحدك».
هذا التقليد المثالي مثل صيرورة ممتدة، بدأت قبل ليسنج، وامتدت إلى ما بعد فيبر، غير أن دفقات ثلاثاً تبقى محورية في تيارها العام، موزعة على محطات أربع مهمة يتوجب الوقوف عندها: الدفقة الأولى (المحورية) تكمن في ليسنج نفسه، وقد بلغ ذروة الإحساس بقوة التطور التاريخي ومدى تأثيره في ارتقاء العقل البشري، وفي نمو الاعتقاد التوحيدي، وذلك في كتابه (تربية الجنس البشري)، إذ نظر إلى الدين كوحي ولكن، أيضاً، ككشف متقدم، يزداد العقل تفهماً له واستنارة به بمرور الزمان كما يزداد الفرد معرفة بتدرجه في مراحل التعليم، حيث اعتقد ليسنج في وجود ثلاث مراحل مرت بها التربية الدينية للجنس البشري. في المرحلة الأولى أي الطفولة ارتفع اليهود إلى تصور وحدانية الله واقتصر هذا عليهم، وكان ما استهواهم في هذه المرحلة هو المعاني الحسية كالعقاب والثواب. ولكن بغير إيمان بحياة أخروية. غير أن المبادئ الأولى لا تناسب غير سن معينة، وعلى هذا فقد تجاوز البشر هذه المبادئ التي وردت في العهد القديم، وتهيأ الجنس البشري لاستقبال الخطوة الثانية في التعلم. أما الخطوة الثانية هذه فتناظر مرحلة الصبا أو المسيحية التي دعت إلى إله عالمي وإلى نقاء الإنسان من الداخل كإعداد لخلود الشخصية. وفي الخطوة الثالثة يقدر للبشرية أن تنمو أكثر فأكثر فتبلغ مرحلة النضج، فتدرك عقلانياً ما كانت تتقبله كوحي يوماً من الأيام، ومن ثم تطور من تصورها لله والسلوك البشري إلى ما هو أرقى.
وهنا نلاحظ مدى إيمان ليسنج بالعناية الإلهية، وهو إيمان طالما ميز التنوير الألماني الذي لم يتصف إطلاقاً بعدائه للدين كالتنوير الفرنسي. فلديه، كانت حركة التاريخ خاضعة لتوجيه الله من البداية إلى النهاية. ولما كان من العسير تحقيق كل شيء دفعة واحدة، وكما يحدث في نظام تعليم الفرد، حيث تنمو قدرات الإنسان بنظام يبعد عن العشوائية، فقد راعى الله في وحيه اتباع نسق معين ومتدرج في رسالته إلى البشر. أما الدفقة الثانية المحورية في تيار التنوير الألماني، فتتمثل في الإضافة الخطيرة التي قدمها إيمانويل كانط، عبر نزعته النقدية التي تجاوزت البحث التقليدي عن الله، أو عن الوجود الحق للأشياء، إلى محاولة فحص (العقل الإنساني) نفسه باعتباره الأداة أو الملكة التي يقوم الإنسان من خلالها بتحصيل المعرفة، والتأكد من كونه أداة صالحة لها أم لا، قادرة عليها على نحو مطلق أم في شكل نسبي؟ وقد كان من نتيجة هذا التصور أن ارتدّ العقل الإنساني إلى نفسه، يفحصها قبل أن يتورط في فحص الوجود، حيث توصل كانط إلى حقيقة مفادها أن العقل الإنساني قادر على المعرفة، وصالح للنهوض بمسؤوليتها، ولكن صلاحيته غير مطلقة، وقدرته ليست كاملة، بل محصورة في نطاق عالم الظواهر والوقائع، فإذا ما تجاوز هذا العالم إلى ما فوقه، والطبيعة إلى ما بعدها، حيث قضايا الألوهية، والخلود، والحرية، كان ذلك أمراً غير مبرر، يتناقض مع قدراته، ويطيحه إلى بحر الظلمات، وكهوف الشك، فما عاد قادراً على بلوغ اليقين الذي يبرر الإيمان. هكذا، قدم كانط للفكر الغربي إحدى أجل الخدمات في تاريخه حتى اليوم، ربما مع مفهوم الجدل الهيغلي، فقبل كانط كان الإيمان يحتاج إلى تدليل عقلي على وجود الكائن المستحق للإيمان، أي الله. وطالما لم يكن ممكناً إثبات هذه الحقيقة تجريبياً، كان الطريق مفتوحاً للشك، معبداً للإلحاد أو اللاأدرية، وكان الاتهام بالتناقض يبدو مبرراً بين أن تكون مؤمناً، وأن تكون عقلانياً، وهو التناقض الذي كان ديكارت قفز عليه عندما تورط في الادعاء بقدرته على تقديم البرهان على وجود الله بقدرته نفسها على تقديم البرهان الخاص بتساوي طرفي معادلة رياضية، يفترض أنهما متعادلان يقيناً. لقد تأسس الادعاء الديكارتي في الحقيقة على الفيزياء الكلاسيكية السابقة على نيوتن، وأيضاً على قاعدة المنطق الأرسطي القائل بوحدة الحقيقة، والقائم على مبدأ عدم التناقض، فالصدق أبدى، وكذلك الكذب، ولا مكان لموقف ثالث توفيقي، فكل طرف من طرفي هذه الثنائية هو خبر عن حقيقة أبدية لا تتغير. ولا شك في أن كليهما، أي الفيزياء الكلاسيكية، والمنطق الأرسطي، سابقان على التجريبية الحديثة، المنهجية والشكية، المصاحبة لفيزياء نيوتن الحديثة، ولمنطق هيغل الجدلي، ولنتخيل حجم الشكوك التي كان ممكناً إثارتها في مواجهة ادعاء ديكارت خلال تلك القرون التالية على رحيله لو لم يقدم كانط تأسيسه الجديد للعلاقة بين العقل والإيمان، عندما تمكن من قلبها رأساً على عقب، مطالباً الملحد بإثبات عدم وجود الله، بدلاً من مطالبة المؤمن بإثبات وجوده، منتصراً في النهاية لفكرة أن الحقيقة الإلهية، لفرط تساميها وليس لفرط ذبولها، غير قابلة سواء للإثبات أو للنفي التجريبيين، فهي حقيقة فوق العقل وليست ضده، حقيقة سامية على عالمنا، ومن ثم متسامية على عقلنا الإنساني الذي لا يمكنه فحصها تجريبياً وتوثيقها تحليلياً على المنوال الذي يقوم به إزاء العالم وقضاياه، والطبيعة وقوانينها، والمجتمع وسننه، بل يمكن بلوغها فقط بالوعي الإنساني الشامل والحدس الكلي، بما فيه من عقل يعقل، وضمير يهجس، وحدس يكشف، وهنا صار ممكناً العالم أن يكون مؤمناً إذا هداه ضميره وألهمه حدسه، أو أن يكون عالماً ملحداً إذا ما غام ضميره وانقطع حدسه، ومن ثم انحل التناقض الذي تصورته الفلسفة الحديثة مزمناً، أو حتمياً بين العقل والإيمان.
وأما الدفقة الثالثة المهمة، وإن جاز القول إنها ليست محورية، فأتت من هيغل الذي قدم إضافة عميقة إلى ما كان قد ذهب إليه ليسنج في نزعته الارتقائية على صعيد إدراك المقدس، فالأمر لدى هيغل لم يعد مجرد عبور خارجي/ شكلي من شريعة إلى أخرى، أو تجاوز تاريخي لمرحلة دخولاً في أخرى أحدث، بل تحول إلى نزعة باطنية عميقة صار التجاوز فيها أمراً داخلياً، واستحال العبور داخلها هو من طريقة للمعرفة إلى طريقة أخرى، لذا فقد استبدلت المراحل الثلاث لدى ليسنج بما يمكن تسميته أنساق الحقيقة الكلية الثلاثة لدى هيغل (الفن والدين والفلسفة). ولم يعد الأمر محض خطة إلهية لتعليم الجنس البشري، على طريق اكتساب وعيه بالمطلق الإلهي، بل هو نزوع إنساني جواني لإدراك الحقيقة المطلقة أو (الروح المطلق)، فالإنسان لدى هيغل يعيش داخل التاريخ في عملية كشف متوالية لا تتوقف عند وعيه بالله، بل تمتد إلى وعيه بذاته هو، حيث تكتمل عملية إدراك الروح المطلق، مع تمام إدراكه جوهرَه الخالص عبر متوالية الفن والدين والفلسفة التي تتعاضد جميعها في الكشف عن الحقيقة المطلقة (الألوهية)، ولكن ليس بصفتها حقيقة واقعية، أو خارجية تماماً يكشف عنها العلم تحليلياً، أو داخلية صرفة يكفي لإدراكها الفن، أو حتى مفارقة تماماً ينقلها إلينا الوحي، ولكن بصفتها حقيقة شاملة باطنية وعقلية وغيبية في آن، تتكامل الملكات الإنسانية مع الوحي الإلهي في كشف كنهها، والعيش بداخلها.
وأما الدفقة الرابعة المهمة، والثالثة (المحورية) في تيار التنوير الألماني المثالي، فأتت من عالم الاجتماع الديني الكبير ماكس فيبر الذي تمكن من إعادة صوغ العلاقة بين المسيحية، كـ (دين مجرد) غير منشغل بالحياة العملية ولا بالتحكم في صيرورة الحركة التاريخية، وبين الواقع الأوروبي الحديث النازع إلى السيطرة الفكرية عبر نزعة التمركز حول الذات، والاستراتيجية عبر النزعة الكولونيالية. لقد بشر المسيح، كما تكشف الأناجيل، بدين بسيط ومثالي، يمثل إجابة عن سؤال: كيف تحيا في ذاتك وتواجهها، تقمع غرائزها ومطالبها، وليس إجابة عن سؤال: كيف تعيش في العالم، وتغيره إلى الأفضل، إذ تنبذ المسيحية الأولى أي توجه لتغيير العالم الخارجي، وتنظر إليه على أنه نوع من خداع النفس لأن العالم الحقيقي هو ملكوت السماء، وعلى الإنسان أن يرتقي إليه تاركاً خلفه عالمنا الخاوي الذي لا سبيل إلى إصلاحه، للشيطان وحده، يهيمن عليه أو حتى يتورط فيه!
ولأن الصيغة الوجودية الأكثر إلهاماً للسلوك الإنساني هي صيغة «الزاهد النشيط»، كونها تخلق دوافع العمل وتولد الرغبة في الكفاح، من دون أن تحيله إلى نزعة تغلُب وتسعى إلى الاكتناز أو التسلط، كانت هذه الصيغة بمثابة المهمة الكبرى لحركة الإصلاح الديني التي شكلت، في صيغتها الكالفينية، نمطاً جديداً من الأخلاق البروتستانتية (النشيطة) لا يمكن تقدير أهميته إلا في سياق تطور المسيحية الكاثوليكية التي طالما عوّلت على صناعة المؤمن «الزاهد»، ولم تكترث لخلق المؤمن «النشيط»، على منوال ما كان متصوراً قيامه نظرياً في اليهودية والإسلام، حيث الحافز الدنيوي للنشاط قائماً وموفوراً منذ البداية.
هكذا، كانت الكالفينية في جزء منها تناغماً مع مطالب عصر جديد يعول كثيراً على النشاط، وإن استبقى نوعاً من الزهد، عندما جعلت النجاح المادي أمراً، ليس فقط مشروعاً طالما كان مؤسساً على الرغبة في تنمية الثروة مع الزهد في الاستمتاع بها، بل ومرغوباً أيضاً كطريق للخلاص الأخروي وعلامة على النجاح في تحقيقه. وما قام به فيبر هو أنه ذهب بهذه الصيغة إلى مداها، بداية القرن العشرين، وذلك في أطروحته الكلاسيكية «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» التي مزجت بين المسيحية والرأسمالية مزجاً خلاقاً، وأعادت اكتشاف الطهرانية الكالفينية، باعتبارها الفكرة التي صاغت عقلية الربح والفائدة، كمرتكزات أساسية للرأسمالية الحديثة.
صلاح سالم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد