التحرّش الجنسيّ بين انغلاق الجماعة وعبادة الشخص
في خضمّ ظهور قضايا التحرّش الجنسيّ في الكنيسة والمواقف المختلفة التي أخذها الناس، ظهرت على السطح مظاهر عبادة الشخص وتناغمت مع حركات سياسيّة شوفينيّة دينيّة الطابع. تهدف هذه المقالة إلى التدليل على بعض الأسباب التي تدفع مجموعات من الناس إلى الانغلاق المتطرّف، وعبادة شخص معيّن كممثّل لها. وكلّ ما سيأتي ذكره هنا على سبيل التحليل العام للظاهرة ينطبق بحذافيره على المجموعات التي تدافع بشكل هستيريّ عن المتحرّشين.
يبيّن علم النفس (أعمال فروم وكلاين وكورني ونظرية التعلّق)i، أنّ مسيرة نضج الإنسان مسيرة طويلة محفوفة بالمخاطر. فالإنسان يخرج من رحم أمّه، ويرتبط بها بوثائق عميقة بسبب من ضعف الطفل، واعتماده المطلق على حنان أمّه، وطعامها، وعنايتها؛ ولو أنّ الوالد يلعب دوراً إلا أنّ دوره يبقى في البداية هامشيّاً مقارنة بدور الأمّ، أو بمن يلعب دور الأمّ في حال غياب الأم البيولوجيّة. هذه الروابط الطبيعيّة جيّدة، وتعتني الأم بواسطتها بالطفل لكي ينمو، فالهدف النهائيّ لهذه العناية، والذي على أساسه يمكن أن نحكم على نجاح أو فشل التربية العائليّة، هو بالضبط أن ينمو الطفل ليصبح إنساناً راشداً، متمايزاً عن الأم وعن الأب، فيمرّ من قطع حبل السرّة المادّي الذي يعطي الجنين الطعام عندما يكون غارقاً في رحم الأم، إلى قطعٍ متدرّج لحبل السرّة المعنويّ الذي يربطه بالأم وبالأب، والذي يقدّم له العناية والأمان والحماية الضروريّة له أثناء عمليّة نمّوه. عند الرشد، من المفترض أن يكون الإنسان قد نما عقليّاً ونفسيّاً وجسديّاً ممّا يسمح له أن يتمايز بشكل كامل، ويستقلّ عن الأهل دون انقطاع عنهم، وذلك أنّه أصبح بفعل تربيتهم قادراً على الاتّكال على نفسه، و«الطيران بجناحيه». لكن في الحالات التربويّة غير السليمة، وهي ليست بقليلة، لا يتمكّن الولد، وبالأحرى لا يمكّنه أهله، أثناء عمليّة نموّه، من الانفصال عن حبل السرّة المعنويّ الذي يربطه بالعائلة، وبالأمّ تحديداً، وهذه النتيجة تكون مضاعفة إذا كان الأب يفرض علاقة خضوع أعمى على الولدii، إذا عندها تتضاءل شخصيّة الولد، وتهزُل قدرته على الحبّ والحرّية.
لماذا؟ لأنّ هذا الإنسان يكبر جسديّاً لكنّه لا يتمكّن من الوقوف بذاته وبالطيران بجناحيه، فلا يعرف من العلاقات سوى العلاقات الدمجيّة أو الذوبانيّة الشبيهة بالعلاقة الأولى للجنين القابع في رحم الأم. فإذا بهذا الإنسان يندفع في علاقاته مع الآخرين إلى تكرار العلاقات الذوبانيّة مع الأم، بحيث أنّه يقيم علاقات ذوبانيّة (على درجات مختلفة من الخطر) مع أشخاص محدّدين، كالزوج أو الزوجة، والزعيم السياسي، والمرشد الروحي، إلخ. كما أنّه يقيم علاقات ذوبانيّة مع مجموعة من الأشخاص، فيذيب ذاته بحماسة في مجموعة دينيّة، أو مجموعة سياسيّة، بحيث تشكّل له تلك المجموعة «حُضناً» معنويّاً، «رحْماً» جديداً يغرق فيه، ويتخلّص بذلك من عبء حرّيته ومسؤوليّتهiii. هكذا، يغدو ذاك الإنسان، إلى حدّ كبير أو صغير، ضائعاً، فاقداً لشخصيّته، إذ يذوب في المجموعة كما وفي شخص محدّد، ويرى بهما هويّته وقيمته الذاتية، فتضمر بذلك فرادته. بالإضافة إلى ذلك، تضمر لدى ذاك الإنسان قدرته على التمييز والحُكم بالأمور بشكل شخصيّ وواقعيّ، ذلك أنّه يعيش (بشكل لا واعٍ) كلَّ تمايزٍ وخلاف مع ممثّل لرحم الأمومة المعنويّ: الزوج/الزوجة، الزعيم السياسيّ، الزعيم الروحي، المجموعة الدينيّة أو السياسيّة، على أنّه تمايز عن «الأمّ» وخلاف معها، وهو تمايز وخلاف لا يحتملهما لأنّه تمرّس منذ طفولته على الخضوع الأعمى الذوبانيّ بالأمّ والأب، وبات في رشده فاقداً لفرادته واستقلاليّته، لا يتمكّن من أن يقف على رجليه الذاتيّتَيْن إذ «يحتاج» دائماً أن «يعكّز» معنويّاً على آخر، وأن يذوب معنويّا بآخر وبمجموعة، مستقيلا بذلك من مسؤولياته، ومن عبء حرّيته، ومن وجوده الذاتيّ إلى حدّ كبيرiv. من هنا، فإنّ حُكمه على أيّ أمر لا يتوافق مع «الأمّ» (المجموعة الدينيّة أو السياسيّة) و «الأب» (الزعيم الديني أو السياسيّ) منحرفٌ، بحكم شططه النفسيّ، الذي يدفعه إلى رفض كلّ تمايز عن «الأـمّ» و «الأب».
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ أيّ خلاف ينشب بين جماعة أو شخص ما وبين الأمّ المعنويّة، والأب المعنويّ، يشحن عدوانيّة ذاك الإنسان المُبتَلَع في نمط علاقات ذوبانيّة، ويدفعه إلى التفكير الثنائيّ القاطع: نحن خير – هم شرّv. وهذا التفكير الثنائيّ الذي يحتكر الخير، يحتكر على المستوى الدينيّ، الجنّة والملكوت والدين القويم (تكفير الخصوم)، وعلى المستوى السياسيّ يحتكر الوطنيّة (تخوين الخصوم)، وعلى المستوى الإنسانيّ يحتكر الإنسانيّة (شيطنة «الغريب»).
هذه الخلفيّة النفسيّة للعلاقات الاندماجيّة بالأمّ، التي تقوّيها علاقات أبويّة قمعيّة، والتي تؤدّي إلى فقدان الفرادة، والقدرة على الحكم، وإلى التفكير الثنائيّ القاطع، تسمح لنا بأن نفهم العنف الموجود في ردّات الفعل السياسيّة والدينيّة. فالمجموعة المنغلقة على شخص دينيّ وعلى مجموعة دينيّة، تستخدم مختلف الوسائل اللاأخلاقيّة، واللاإنسانيّة أحياناً، وتبرّر استخدامها، من أجل الدفاع عن الغاية التي تظنّها «شريفة»، وعن الحقّ الذي تظنّ أنّها تحتكره. هذا النهج، يُفهم انطلاقا من الخلفيّة التي شرحناها، فالمنتمين إلى هكذا مجموعة لا يشعرون أنّ لهم ذوات بدون علاقاتهم الذوبانيّة، وبالتالي فإنّ أيّ زعزعة للأوهام التي تقوم عليها تلك العلاقات الذوبانيّة يُلقي بأصحابها في قلق لا يمكنهم احتماله، ويمسّ بنرجسيّتهم الجماعيّة التي تؤمّن لهم انتفاخا واهما يعوّض عن هزالتهم الوجوديّة، ومن هنا استخدامهم العنف لإلغاء كلّ مصدر لزعزعة أوهامهم. زد على ذلك أنّ الآخرين المختلفين، هم حكما «غرباء» بحكم وجودهم خارج «حضن الأمّ»، ولا يستحقّون نفس القيمة الإنسانيّة لأعضاء المجموعة المنغلقة؛ فيسقط عندهم ذاك القول القديم ليسوع «افعلوا للناس ما تريدون أن يفعلوه بكم». وهذا الواقع العنيف يغدو مضاعفاً عندما تتّخذ المجموعة صفة احتكار الحقّ المقدّس، والله، والطريق القويم.
بالإضافة إلى ذلك فإنّ الذوبان في الكتلة، يعطي للإنسان شعوراً بقيمة وهميّة نابعة من تكتّله الذوبانيّ لا من إنجازاته وعلاقاته الإنسانيّة السويّة بالآخرين، والتي لا تكون إلاّ باحترم فرادته الذاتية وفرادات الآخرين وتمايزهم واختلافهم. وكما يقول المتخصص النفسي د. مصطفى حجازي إنّ «أكثر الأفراد ذوباناً في الجماعة وتعصّباً لها، هم في معظم الأحوال، أشدّهم عجزاً عن الاستقلال والوصول إلى مكانة فرديّة، وإلى قيمة ذاتيّة تنبع من شخصيتهم... الفَرْد من هؤلاء يبحث، بشكل لا واعٍ، عن العودة إلى العلاقات الدمجيّة بالأمّ، مصدر الحبّ والدفء والحنان والغذاء، ومصدر السلوى... الجماعات المغلقة... هي الأمّ بعينها، الأمّ المعطاء التي يجب أن تستقطب كلّ الولاء. ومن هنا التعصّب المفرط لتقاليد الجماعة ومعاييرهاvi».
والذوبان في الكتلة، وفي شخصيّة الزعيم الروحيّ أو السياسيّ، يقوم على البحث عن شعور وهميّ بالأمان من خلال عمليّة «إدارة الضمائر» المطلوبة لدى أناس يبحثون عن علاقات ذوبانيّة، والتي يؤمّنها باسم الله مرشد روحي منحرف يستغلّ ضعف هؤلاء، وباسم الوطن زعيم سياسيّ متسلّط، مما يجعل المجموعة تصل إلى شعور وهميّ بأنّها تمتلك الحقيقة القطعيّة الدينيّة أو السياسيّة، حيث كل شيء أبيض أو أسود، وحيث يمكن الحكم على الأمور ببساطة دون حاجة للتفكير والقلق. هكذا، يهرب الإنسان بذلك من مواجهة الواقع وما يفرضه عليه من تعب، وأزمات، وتفتيش، وشكّ ضروريّ للتفتيش قُدُماً عن الحقيقة. بالطبع هكذا علاقة منحرفة يتحمّل مسؤوليّتها الطرفان، إذ أنّها لا تمتّ للأبوّة الروحيّة الأصيلة بصلة ولا إلى القيادة السياسيّة؛ كما ويتحمّل مسؤوليّتها المجتمع عامّة والقيادات الدينيّة والسياسية غير المنغمسة في هكذا أنماط مشوّهة من العلاقات لأنّ مسؤوليّتهم كبيرة في مواجهة هذا الواقع.
ويقوم الذوبان أيضاً على رافعة النرجسيّة الجماعيّة، التي تتجلّى بتمجيد الذات من خلال تمجيد شخص الزعيم الروحيّ أو السياسيّ. فالأتباع يحملون صورة مثاليّة عن أنفسهم ولكن عوض ان يعيشونها مباشرة، يسقطونها على شخص المرشد الروحي أو الزعيم السياسي، فيرفعونه إلى مصاف القداسة أو النبوغ، ويضغون عليه صفات تضخّم من مزاياه. هكذا يشعرون، من خلال اتبّاعهم الخضوعيّ له، بأنّهم لا يمارسون سوى فضيلة الطاعة والتواضع أو الوطنيّة، ولكن يأخذون بالمقابل شعورا وهميّاً بالجدوى والقيمة بسبب ذوبانهم فيه هو العظيم. وهكذا، بينما يكون هؤلاء يعيشون في الواقع في تمجيدٍ للصورة المثاليّة عن أنفسهمvii، يعتقدون وهميّاً بأنّهم يكتسبون الفضائل الدينيّة أو الوطنيّة، ممّا يضخّم أكثر من صورتهم النرجسيّة عن أنفسهم، إذ بالإضافة إلى كونهم يتبعون لرجل قدّيس، أو لزعيم عظيم، يظنّون أنفسهم غاية في التواضع أو الوطنيّة. ويصحّ بهم عندها ما قاله الراهب سمعان كراغيوبولوس «يربط الإنسان نفسه بأحد الشيوخ ويعتبر ذلك فضيلة، بينما هو أمرٌ ليس فقط مرضيّاً وإنّما هو خطيئة أيضاً... اليوم، الأشياء مضطربة لدرجة أنّ وضعاً مرضيّاً بشكل عميق... يُعتَبَر فضيلة» viii، «عندما يُعجَب أحدهم بإنسان آخر [بهذه الطريقة]... عندما يهدم نفسه ليخدم ذاك الإنسان، عندما يُخضع نفسه لذاك الإنسان ويكون مستعداً أن يرمي نفسه بالنار من أجله، لا يكون سوى محبّاً ومؤلّهاً ومعتمداً على صورته المثاليّة عن ذاته، التي لم يكن يملك الشجاعة كي يراها في ذاته، فنقلها إلى آخر».ix
كما لاحظنا، كلّ ما قلناه بشأن العلاقات الذوبانيّة بالمرشد الروحيّ أو الزعيم الديني، ينطبق على العلاقات الذوبانيّة التي نجدها بالزعيم السياسيّ، فالخلفيّة النفسيّة ذاتها في الحالتين؛ ومن هنا التوافق الذي نلاحظه بين المجموعات الأصوليّة التي تنحو إلى التكفير، وبين المجموعات الحزبيّة الطائفيّة المنغلقة والعنصريّة، إذ أنّ كلاهما لا يحتملان الاختلاف، ويعيشان على أوهام امتلاك الحقيقة المطلقة، ودفن القلق الشخصيّ، ومحو الفرادة، والشعور الواهم بالأمان، وممارسة العنف ضدّ كلّ من يخالف حضن «الأم» المعنويّة، وإرادة «الأب».
من هنا، يمكننا أن نرى النتيجة الكارثيّة، والخراب الإنسانيّ والروحيّ، عندما يقوم إنسان أو مجموعة، برمي ذواتهم في علاقات اندماجيّة يذيبون فيها ذواتهم في شخص رجل الدين، أو رجل السياسة؛ وعندما يستغلّ المرشد الروحي أو القائد السياسيّ هذا الضعف لمصلحة تضخيم ذاته وممارسة تسلّطه وتحكّمه بالضمائر.
ذلك أنّ النتيجة تكون أنّ قدرة هؤلاء على ممارسة حرّيتهم الذاتيّة تتضائل، وقدرتهم على المحبّة تتضاءل. إنّ السعي إلى علاقات الوحدة مع الآخرين مع المحافظة على التمايز عنهم، السعي إلى الوحدة مع الحفاظ على الحرّية، السعي إلى ما يمكن أن نسمّيه خطّ علاقات المحبّة الأصيلة، مدعومة بمؤسّسات تحمي الحرّية، وبتربية تحترم الطفل والولد وتساهم بنموّ شخصيّات متمايزة، ومدعومة بأنماط سياسيّة تحترم الإنسان وحرّيته وكرامته وتركّز على الخلاف حول القضايا عوض الأشخاص؛ هذا الخطّ، خطّ علاقات المحبّة المدعومة من بُنى تشجّعها، هو الخطّ الذي ينجّي الشخص الإنسانيّ داخل العائلة، وفي المدى السياسيّ والدينيّ، من الخراب الروحي والإنسانيّ العميم التي نشاهده منذ زمن بعيد في عدّة مجالات، ونشاهده أيضاً منذ ظهور قضايا التحرّش الجنسيّ في الكنيسة مؤخّراً، هذا الخراب الذي ينوء تحته المدافعون عن المتحرّشين، ويؤذي الضحايا الحقيقيّين أيّما إيذاء، يشكّل إدارة ظهر عمليّة عن وجه المسيح مهما كانت الكلمات المُعلَنَة مُحترَمَة، فكيف إن لم تكن؟
* أستاذ جامعي
المراجع:
i
Melanie Klein and Joan Riviere, “Love, Hate and Reperation”, W. W. Norton, 1964, p. 18
Erich Fromm, “The Heart of Man”, Harper Colophon Books, 1968
Sigmund Freud, “A General Introduction to Psychoanalysis”, Joan Riviere, Ernest Jones, G. Stanley Hall (Trans.), Garden City Publishing, New York, 1943, p. 295
Nicole Guédeney, Antoine Guédeney, L›attachement : approche clinique: Du bébé à la personne âgée, Masson, 2010, p. 9-15, 95-102
ii
Erich Fromm, “The Sane Society”, Fawcett Premier, 1955, p. 42-50
iii
Erich Fromm, “The Fear of Freedom”, Routledge Classics, London-New York, 2004
iv
Erich Fromm, “The Sane Society”, Fawcett Premier, 1955, p. 59-60
v
Aaron T. Beck, “Prisoners of Hate: the cognitive basis of anger, hostility, and violence”, Perennial - HarperCollins, 2000, p. 22
vi
مصطفى حجازي، «التخلّف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجيّة الإنسان المقهور»، المركز الثقافي العربي، الطبعة 9، 2005، ص. 113
vii
Karen Horney, “Our Inner Conflicts: A Constructive Theory of Neurosis”, W W Norton & Company Incorporated, 1945, p. 96-114
viii
Symeon Kragiopoulos (Archimandrite), “Do You Know Yourself? Psychological Problems and the Spiritual Life”, Manton, California, Divine Ascent, 2010, p. 83-84
ix
Ibid., p. 147
خريستو المر
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد