علاء الأسواني: هل نبني السلطة أم الدولة؟
مَن أصحاب الفضل في انتصار «أكتوبر» 73؟
سنذكر أولا القادة العسكريين، وعلى رأسهم رئيس الأركان الفريق سعد الدين الشاذلي، الذي كانت عبقريته العسكرية سبباً في النصر، حتى غضب السادات عليه فأقاله، واستأنف مبارك اضطهاده وحاول محو اسمه ودوره من تاريخ الحرب. مع تقديرنا الكامل للقادة، فإن صناع النــصر الحقــيقيين هم الجنود، أولاد الفقراء الذين جاؤوا من قرى مصر ونجوعها ليؤدوا الخدمة العسكرية بعد هزيمة 67 فامتدت فترة تجنيدهم لأكثر من ست سنوات، وظلت حياتهم مؤجلة حتى خاضوا الحرب، فاستشهد وأصيب منهم كثيرون، وخرج الباقون ليبدأوا حياتهم، فوجدوا مصر مختلفة تماماً عن تلك التي عرفوها قبل التجنيد. جاء الانفتاح الاقتصادي وتضاعفت الاسعار وانتشر الفساد وتكونت طبقة من الأثرياء، كونوا ثرواتهم غالباً عن طريق الوكالة والسمسرة، وانتهى المشروع القومي للمصريين، فتحولوا من أمة متوحدة ذهنياً ونفسياً الى مجموعة من السكان، لا يجمعهم سوى التجاور في المكان، بينما يسعى كل منهم الى مشروعه الخاص.
تعلم المصري أن يهتم بشؤون أسرته فقط، ووطد نفسه على ان رأيه بلا قيمة، لأن السلطة ستنفذ دائماً ما تريده، بغض النظر عن موافقته او اعتراضه. صار المصري يقاتل بضراوة حتى ينفق على تعليم أولاده الذين ما أن يتخرجوا من الجامعة، حتى ينضموا الى الطوابير الطويلة أمام سفارات الخليج، بحثاً عن عقد عمل، بعد أن أعلنت الدولة بوضوح أنها ليست ملزمة بتعيين المتخرجين.
تحت حكم مبارك تحولت الدولة من كائن معنوي وظيفته توفير احتياجات المواطنين، الى سلطة مستبدة تستأثر بالحكم بواسطة القمع وتزوير الانتخابات، وقد أدارت ظهرها لملايين الفقراء وتركتهم يواجهون مصيرهم وحدهم. لا علاج ولا تعليم ولا عمل ولا مسكن لائق.
اذا أردت أن تشاهد مثالا لجرائم مبارك، ما عليك الا أن تقود سيارتك وتذهب الى المقابر، لتجد أسراً كاملة تعيش وتربي أولادها فوق الأموات. ملايين المصريين يعيشون في المقابر منذ عقود. إذهب الى أسفل الكباري ستجد أطفال الشوارع الذين يقدر عددهم في مصر ما بين اثنين الى ثلاثة ملايين طفل. بعد ثلاثين عاما من حكم مبارك تحولت مصر الى بلدين منفصلين متناقضين في كل شيء، لكنهما يحملان الاسم نفسه، مصر المحظوظة في الزمالك والمهندسين والتجمع والساحل الشمالي، حيث يعيش الأغنياء في قصور، ويركبون أفخر السيارات، ويقتني كثيرون منهم الطائرات الخاصة. هؤلاء لا يحتاجون الى الدولة إلا في «البيزنس»، فهم يعالجون في الخارج إذا مرضوا، ويلحقون أبناءهم بمدارس وجامعات خاصة أجنبية مصاريفها باهظة. أما مصر الأخرى المنسية الغارقة في الظلام فيعيش فيها أكثر من نصف الشعب، ملايين الفقراء متروكون في العراء، تتعامل معهم السلطة وكأنهم طائفة المنبوذين: لا تقدم لهم وظائف ولا علاجاً ولا تعليماً حقيقياً. حياة هؤلاء أو موتهم لا يعني السلطة في شيء. هؤلاء يصيبهم الفشــل الكلــوي والسرطان من تلوث الماء والطعام، وإذا ذهبوا للعلاج في المستشفيات العامة سيموتون من الإهمال. أما المستشفيات الخاصة، فلن تقبل علاجهم أبداً، مهما كانت حالتهم خطيرة، قبل أن يودعوا آلاف الجنيهات في خزينة المستشفى. هؤلاء تحترق بهم دائماً قطارات الدرجة الثالثة وتغرق بهم العبارات ومراكب الموت أثناء محاولاتهم المستميتة للفرار من الوطن، بينما السلطة تتفرج عليهم وتعتبر قتل الآلاف منهم مجرد أحداث مؤسفة.
الفقراء في نظر نظام مبارك ليسوا سوى مجموعة من الكسالى الفاشلين المسؤولين عن فقرهم، وهم لا يجدون عملا لأنهم ببساطة لا يصلحون للعمل، وبالتالي فهم عالة على البلد ولا يأتون إلا بالمشاكل والجرائم. عندما هاجر المصريون الفقراء الى العراق بحثاً عن الرزق قامت بعدها الحرب بين العراق وإيران، واضطر المصريون الى الانخراط في الجيش العراقي ليخوضوا حرباً لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ثم ماتوا أثناء الحرب، وعادوا الى أرض الوطن في مئات النعوش. عندئذ توالت الاعتراضات في وسائل الاعلام على قتل المصريين بهذه الطريقة، فما كان من حسني مبارك الا ان دافع عن صدام حسين وسخر من المصريين الذين ماتوا في العراق قائلا:
« ـ الرئيس صدام بيدعو للتضامن العربي لازم نساعده، وبعدين إحنا عارفين إن اللي ماتوا في العراق معظمهم ضاربهم السلك (بمعنى انهم معدمون وخارجون على القانون).
في العام 2006 غرقت عبارة السلام (بسبب الفساد) ومات فيها أكثر من ألف مصري، فاعتدى جنود الأمن المركزي على أهالي الضحايا، وذهب مبارك في ذلك اليوم ليحضر تمرين المنتخب القومي لكرة القدم ليطمئن على مستــوى اللاعــبين قبــل بطــولة أفريقيا. إن تجاهل نظام مبارك الفقــراء لم يكن نابعــاً مــن إهــمال وفساد فقط وانما شكل فلسفة اجتــماعية تقــوم على احتقار الفقراء، لأنهم فشلوا في الثراء، وبالتالي عليهم ان يجدوا حلولا لمشاكلهم بعيداً عن الدولة. في الدنيا كلها وظيفة الدولة أن توفر لمواطنيها حياة كريمة إلا في مصر، فإن الدولة لا تجد من واجبها ان توفر شيئاً للفقراء، ما عدا عصا القمع اذا تمردوا، او مشروعات خيرية تحيل الفقير الى متسول يظهر في التلفزيون ليبكي فرحاً، وهو يشكر من تبرع بمصروف علاجه.
الدولة في نظام مبارك تحولت الى مجرد سلطة، والفرق هنا كبير. الدولة كائن معنوي مسؤول عن رعاية المواطنين والسلطة تستأثر بالحكم وتستمر وفقاً لقدرتها على قمع المواطنين، وبالتالي لا تهتم كثيرا بآرائهم أو مصالحهم. بعد ثلاثين عاماً من حكم مبارك أصبح حلم معظم الشــباب أن يهربوا من وطنهم بأي طريقة، كي يحظوا بعقد عمل في الخليج، وغالباً ما يتحملون هناك كل انواع الظلم والإهانات حتى ينفقوا على أسرهم، وأما إن يحاولوا الهجرة بطريقة غير شرعية الى اوروبا فكثيراً ما تغرق بهم قوارب الموت. من سنوات أجرى التلفزيون المصري لقاءً مع أحد الناجين من قوارب الموت فاذا به يؤكد انه سيحاول الهرب مرة أخرى بالطريقة نفسها في أقرب فرصة. وعندما حذرته المذيعة من الموت ابتسم بمرارة وقال:
ــ هو أنا يعني عايش في مصر؟ أنا ميّت.
كانت هذه حال الفقراء حتى قامت الثورة ونزل ملايين المصريين ليطالبوا بإسقاط نظام مبارك ورفعوا شعارات الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية. حافظ المجلس العسكري على نظام مبارك ثم انتقلت السلطة لـ«الاخوان»، فتبين للمصريين أنهم لا يختلفون عن نظام مبارك في فساده واستبداده بالاضافة الى تجارتهم بالدين. نزل ملايين المصريين يوم «30 يونية» في موجة ثورية عظيمة لإنهاء حكم «الاخوان» وانحاز الجيش للشعب، وتم اعلان خارطة الطريق وتشكيل لجنة لتعديل دستور «الاخوان». عندئذ حانت فرصة حقيقية لبناء دولة حديثة توفر فرص العمل والحياة الكريمة والمسكن اللائق والعلاج المجاني لكل المواطنين بلا تمييز. في الدول الديموقراطية تتحقق العدالة الاجتماعية بوسيلتين: الربط بين الحد الأدنى والأقصى للأجور بين موظفي الدولة، الفكرة هنا أن هذه الاجور تقتطعها الدولة من أموال الشعب (دافع الضرائب) وبالتالي لا يجوز أن تعكس تفاوتاً ظالماً بين الموظفين. لا يجوز مثلا أن يتم تعيين الطبيب أو المهندس بمرتب خمسمئة جنيه شهرياً بينما المحظوظون من كبار الموظفين يحصلون على مليون او مليوني جنيه كل شهر من خزانة الدولة. الوسيلة الثانية لتحقيق العدالة الاجتماعية هي الضرائب التصاعدية. بمعنى أن تتصاعد الضرائب مع تزايد أرباح الأفراد والشركات حتى توفر للدولة موارد كافية تؤمن بها حياة كريمة للفقراء. هذا النظام للعدالة الاجتماعية معمول به في معظم الدول الديموقراطية، وهو الذي يسعى الدكتور محمد غنيم (بصفته عضواً في لجنة الخمسين) الى إقراره في الدستور الجديد. الدكتور غنيم واحد من أهم جراحي الكلى في العالم، وقد أنشأ مركز الكلى الشهير في المنصورة الذي عالج آلاف الفقراء بالمجان. قام الدكتور غنيم بدور وطني عظيم في الثورة المصرية وقد تقدم الى لجنة الدستور بمقترحات تتلخص في ربط الحد الأدنى بالحد الأقصى لأجور العاملين في الدولة وإقرار نظام الضرائب التصاعدية على الأثرياء حتى توفر الدولة حياة آدمية للفقراء. ربط الحد الأدنى بالأقصى للأجور والضرائب التصاعدية سياستان مطبقتان في معظم الدول الديموقراطية. بينما تصل الضرائب في مصر الى 20 في المئة كحد أقصى ويستطيع المحاسب الماهر دائماً أن يقدم للضرائب ما يثبت أن عميله الثري قد حقق خسارة أو مكسباً ضئيلا. إن الضرائب في معظم بلاد العالم تتصاعد مع تزايد الأرباح حتى تصل على الأفراد الى 57 في المئة في السويد و50 في المئة في اليابان و45 في المئة في بريطانيا و55 في المئة في بلجيكا و52 في المئة في إسبانيا. و51 في المئة في الدنمارك و50 في المئة في النمسا و45 في المئة في ألمانيا. من حق أي مصري أن يعامَل باعتباره إنساناً: أن يعيش في مسكن لائق، وأن يجد مدرسة لأولاده، يتعلمون فيها بالمجان تعليماً جيداً. واجب الدولة أن ترعى صحة المواطنين وتعالجهم بغض النظر عن قدراتهم المادية. لا بد أن ينص الدستور الجديد على نظام للضرائب التصاعدية وربط الحد الأدنى بالحد الأقصى للأجور، حتى تتوفر للدولة الموارد اللازمة لتحقيق الحياة الكريمة لملايين الفقراء.
علاء الأسواني
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد