الحرب المنسيّة، لذكرى حافظ الأسد
كنتُ فتىً حين وقعتْ حرب تشرين/ أكتوبر 1973، لكنها لحظة نادرة ارتقت بالوجدان الجمعي في حي شعبي بعمان إلى ذرى روح التحرر الوطني؛ في 6 منه، شيء ما في لهجة إذاعة دمشق، ألهمني تحضير المسجّلة، ولم أنتظر طويلاً حتى سجلت لحظة كسر الجيش الإسرائيلي على الجبهتين، في البيانات السورية والمصرية. أصبح هذا التسجيل أيقونتي، انطبع على قلبي، بينما تلف الشريط ـــ البَكَرة.
تابعتُ الحرب منذ 6 تشرين/ أكتوبر وحتى 20 منه حين توقفت على الجبهة المصرية، وحتى نهاية أيار 1974، حين توقفت على الجبهة السورية؛ مَن يذكر الآن أنه بعد حرب تشرين / أكتوبر، كانت هنالك حرب استنزاف خاضها الجيش العربي السوري، وحده، امتدت ما يقرب الأشهر الستة، منها ثمانون يوماً من القتال المستمر الضروس بين 13 آذار وحتى 31 أيار 74.
لسوء الحظ أن الإعلام السوري ـــ كان ولا يزال ـــ غارقاً في الأناشيد والكليشيهات، بحيث أنه أنتج القليل من الوثائقيات والمواد الإعلامية التي تشرح حرب تشرين ــــ ومضمونها السياسي ومعناها في السياق اللاحق ــــ من وجهة النظر السورية، بحيث لا يزال يبدو أن وجهها الأساسي هو وجه حرب أكتوبر على الجبهة المصرية. وعلى سبيل المثال، فلولا رواية «المرصد» لنجاح العطار وحنا مينا، لضاعت مأثرة الجنود السوريين البطولية في معركة مرصد جبل الشيخ من دون تسجيل أدبي راق.
إلى جانب عبور قناة السويس وخط «بارليف» ــــ وهو إنجاز كبير للعسكرية المصرية ــــ أنجز السوريون، قهر العائق الجبلي وخط «آلون» الحصين. وفي الواقع أن الجهد العسكري السوري كان في حرب تشرين، موازياً للجهد المصري. ويزيد الأول عن الثاني، في أنه كان، أولاً، أكثر تهديداً وإيذاء للعمق الإسرائيلي، وأنه كان يسير، ثانياً، وفق خطة تحرير للمرتفعات المحتلة لا تقف عند خط مفاوضات. (وكان مقدراً لهذه الخطة أن يتم تنفيذها في 30 ساعة. وفي هذه الغضون، تم إنجاز معظمها بالفعل؛ فوصلت طلائع القوات السورية إلى مشارف بحيرة طبريا).
وللسببين المار ذكرهما، ركّزت إسرائيل، معظمَ قواها العسكرية على الجبهة السورية، وشهدت الجولان، تالياً، رحى معارك دبابات من المستوى الخاص بالحرب العالمية الثانية، ولم يعرف العرب، بالطبع، مثلها أبداً؛ هؤلاء الذين طالما تبجّح بعضهم بأن سوريا لم تطلق طلقة واحدة من الجولان، لم يقرؤوا كلمة واحدة في كتاب أو حتى تقرير جدي عن المعجزة العسكرية السورية في حرب تشرين.
في 20 تشرين الأول/ أكتوبر، قبل الرئيس المصري، أنور السادات، ومن دون التنسيق مع شريكه في الحرب الرئيس حافظ الأسد، قرار وقف إطلاق النار، فاستمرت دمشق تخوض حرب استنزاف بطولية؛ إنها الحرب المنسية.
على أن المضمون السياسي لتشرين سوريا هو الأهم؛ فلم تكن الحرب، لدى الأسد، حرب تحريك لمفاوضات صلح واستسلام، وإنما حرب تحرير، ضعفت فرصتها في المواجهة التقليدية، من دون أن يضعف أو يتراجع القرار السياسي في المقاومة المستمرة للعدو، خارج الأسوار، في منع انحلال لبنان وطناً بديلاً في 1976 وفي الدفاع عنه في مواجهة العدوان الإسرائيلي، مرات، أبرزها مأثرة القتال دون الفارين من حرب 1982، وفي دعم المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق. والدعم ليس تبرعاً خيرياً وإنما هو قرار بتحمّل المسؤولية السياسية عن حروب المقاومة، قد تؤدي في أي لحظة إلى الاشتباك في حرب، لم يتوقف الجيش العربي السوري عن الاستعداد لها. وهي كانت دائما ممكنة.
بسبب قوة المؤسسة العسكرية السورية وجاهزيتها، أخذ العدوّ الأميركي الإسرائيلي، دائما، خيار الحرب داخل الأسوار، في مواجهة استراتيجية الأسد، بعد تشرين، للحرب خارجها؛ تجلّى ذلك في إشعال الحرب الأهلية في لبنان، ومسعى المنظمات الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين لمواجهة التدخل العسكري السوري في البلاد، وإطلاق حمم الكراهية ضد سوريا، لتتلاقى مع التمرد الإجرامي الإخونجي المدعوم من التحالف الإمبريالي الرجعي العربي عبر النظام الأردني، مطلع الثمانينات؛ وهدفه الانتقام من دمشق التي قالت لا لكامب ديفيد. ثم، وبينما كان الجيش السوري، يلملم جراحات لبنان بعد الغزو الإسرائيلي، كان خنجر ياسر عرفات، يطعن دمشق في ظهرها، ويقاتلها، جنبا إلى جنب مع البوارج والطائرات الأميركية (يذكّرنا المشهد بخنجر خالد مشعل في ظهر بشار الأسد). وحتى في أحلك الظروف، في التسعينيات، جلب العدوّ، الفلسطينيين والأردنيين، إلى أوسلو ووادي عربة، لكن حافظ الأسد، مات ولم يوقّع... إلا على انتصار المقاومة في جنوب لبنان 2000.
ناهض حتر
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد