مصر: «المحاكمات العسكرية للمدنيين» مجدداً
في الخامس من أيلول الحالي، توقفت تحديثات الصحافي أحمد أبو دراع على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» عن الوضع بشمال سيناء، وذلك بعد القبض عليه من قِبل القوات المسلحة المصرية، وإحالته على المحاكمة العسكرية بتهمة «إشاعة أخبار كاذبة عن الجيش بما يضعف الثقة في الدولة وهيبتها واعتبارها».
ومنذ سنوات عدة، يعمل أبو دراع مراسلاً من شمال سيناء في صحيفة «المصري اليوم» وقناة «أون تي في» التلفزيونية وعدد من وكالات الأنباء. ومع احتدام العملية العسكرية التي يخوضها الجيش هناك ضد «الجماعات الجهادية المسلحة»، نَشر المراسل عدداً من الأخبار تخالف تصريحات الجيش بخصوص سير العمليات.
على سبيل المثال، نشر أبو دراع في الثالث من أيلول، أي قبل يومين من اعتقاله، خبراً عن قصف طوافات الـ«أباتشي» قرية الشيخ زويد القريبة من مدينة رفح الحدودية مع قطاع غزة، ما أدى إلى إصابة مدنيين وهدم عدد من المنازل ومسجد، في حين نشر المتحدث العسكري على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك» بيانا جاء فيه أن الهجمات أسفرت عن مقتل وإصابة 23 من «العناصر الإرهابية».
الخبر الأهم الذي نشره أبو دراع كان اتخاذ الجيش قراراً بإنشاء منطقة عازلة على الشريط الحدودي المتاخم لقطاع غزة، وتهجير عدد من الأسر من دون توفير مساكن بديلة لها، وهو ما دفع المئات من أهالي رفح إلى التظاهر رفضاً لهذا القرار الذي لم يصدر بشأنه أي تأكيد أو نفي رسمي.
وليست محاكمة أبو دراع عسكريا الحالة الوحيدة التي يمثل فيها مدني أمام القضاء العسكري، فالمحاكمات العسكرية للمدنيين عادت بقوة عقب عودة القوات المسلحة إلى المشهد السياسي غداة تظاهرات «30 يونيو» التي أدت إلى عزل الرئيس محمد مرسي.
ووفقا للموقع الإلكتروني لمجموعة «لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين»، فقد تمت محاكمة ثمانية من أنصار مرسي بسبب تظاهرهم أمام مبنى محافظة السويس، ووجهت إليهم اتهامات بالتعدي على قوات الجيش الثالث، وصدرت ضدهم أحكام بالسجن سنتين، خُففت بعد ذلك إلى سنة واحدة لكل منهم.
وفي الثالث من أيلول أصدرت محكمة عسكرية حكماً بالسجن المؤبد بحق مدني، والسجن المشدد 15 عاما بحق 10 آخرين، فضلا عن حبس 47 متهماً لمدة خمس سنوات، بعد إدانتهم بتهم التعدي على قوات الجيش أثناء التظاهر. ونظرت المحكمة في القضية خلال جلستين فقط.
ويأتي هذا بعد معركة طويلة خاضها ناشطون وحقوقيون على مدار عام ونصف عقب تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك لوقف المحاكمات العسكرية للمدنيين، والتي استمرت طوال فترة حكم المجلس العسكري لمصر، وكذا بوتيرة أقل خلال حكم محمد مرسي، وأسفرت عن محاكمة أكثر من 12 ألف مدني أمام القضاء العسكري.
وتعلق عضو حملة «لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين» المحامية راجية عمران على ذلك بالقول إن «طابع المحاكمات العسكرية للمدنيين بعد 30 يونيو لا يختلف عما كان يحدث من قبل، ففي كثير من الحالات لا يتمكن محامو المتهمين من حضور التحقيقات مع المقبوض عليهم، والقضايا تُنظر ويُفصل فيها بسرعة، قد لا يتمكن المحامون من الاطلاع على أوراق القضية أو مقابلة موكليهم».
هذا الأمر يؤكده نجاد البرعي، محامي مؤسسة «المصري اليوم» المكلف الدفاع عن أبو دراع، حيث يقول إن التحقيق مع موكله قد تم في غياب محامي كما أنه فشل في مقابلته في محبسه برغم حصوله على تصريح من النيابة العسكرية، ذلك أن قائد معسكر الجيش في الإسماعيلية، المحبوس فيه أبو دراع»، رفض السماح له بمقابلته.
ويشرح المحامي في «جبهة الدفاع عن متظاهري مصر» أشرف عباس طريقة عمل القضاء العسكري فيقول: «هناك سيطرة كاملة من الجيش على العملية القضائية أمام المحاكم العسكرية، وهو ما يعيق تحقيق العدالة، فمثلا لا يتم تمكين المحامي من الاطلاع على ملف القضية كاملا، ويسمح له فقط بالاطلاع على أقوال المتهم والضابط الذي قام بالقبض عليه... أما محاضر التحريات وتقارير المخابرات الحربية، التي يستند إليها القاضي في حكمه، فلا يُسمح للمحامي بالاطلاع عليها بدعوى أنها وثائق سرية».
ويضيف عباس: «كثيرا ما نطلب مثول شهود الإثبات، وغالباً ما يكونوا ضباط جيش، للشهادة أمام المحكمة لمناقشة أقوالهم، فيستدعيهم القاضي العسكري، ولكنهم يرفضون المثول بدعوى الحالة الأمنية الحالية التي تستلزم منهم عدم مغادرة أماكن خدمتهم... رغم أن هذا يهدر العدالة وحق المتهم في أن ينال كل الفرص للدفاع عن نفسه وإثبات براءته».
«محاكمة بلا ضمانات»
ويعلل الرافضون لمحاكمة المدنيين عسكرياً موقفهم بأن القضاء العسكري غير مستقل، فهو خاضع بشكل كامل للسلطة التنفيذية. ووفقا للقانون، فإن تعيين القضاة العسكريين ومساءلتهم ونقلهم وترقياتهم تتم بقرارات من وزير الدفاع. ويضيفون إلى ذلك عدم جاهزية القضاء العسكري للنظر في قضايا يحاكم بها مدنيون، فالتعامل مع الأدلة هنا يختلف عن القضاء العادي.
ويقول المحامي أحمد سيف الإسلام، وهو مؤسس «مركز هشام مبارك للقانون»: «هناك مشكلة في كيفية التعامل مع الأدلة، فبالنظر إلى القضايا المختلفة التي يتعامل معها القضاء العسكري، نرى اعتماداً مطلقاً على محاضر التحريات والضبط التي يتم إعدادها بواسطة الشرطة العسكرية، فبالنسبة للقضاء العسكري، فإن ما يحرره الضابط المسؤول سواء كان من الجيش أو الشرطة هو دليل كاف للإدانة، ويمكن الاعتماد عليه بشكل كامل حتى لو لم تكن هناك أي أدلّة أخرى. أمّا في القضاء العادي فإن محضر التحريات هو دليل يحتمل الصدق أو الكذب، ولا يكفي وحده لإدانة متهم... ما يعكس هنا مشكلة حقيقية في حس العدالة لدى وكلاء النيابة والقضاة العسكريين، فبالنسبة إليهم ما أتت به جهة رسمية هو دليل مُصدق لا يقبل التشكيك».
المحاكمات العسكرية والدستور
بين ثورتي يوليو 1952 ويناير 2011، استخدمت السلطات المصرية المحاكمات العسكرية مرات عدة لمواجهة المعارضة، وكانت أكثرها شراسة الفترة التي أعقبت اغتيال الرئيس الأسبق محمد أنور السادات. وقد توسع حسني مبارك في استخدام المحاكمات العسكرية في مواجهة الإسلاميين، وذلك لضمان صدور أحكام سريعة وقاسية ضد الآلاف منهم.
ولم يحسم دستور العام 1971 إمكانية محاكمة المدنيين عسكريا من عدمه، بل ترك الأمر للقانون الذي سمح بذلك النوع من المحاكمات في حال تم التعرض لأحد أفراد أو منشآت القوات المسلحة. كما احتوى القانون على مادة تجيز لرئيس الجمهورية إحالة مدنيين للقضاء العسكري في حال رأى ضرورة لذلك.
ورغم أن الإسلاميين قاموا بإلغاء المادة التي تبيح لرئيس الجمهورية إحالة مدنيين للقضاء العسكري، وهي المادة التي عانوا منها طويلا طوال 30 عاما، إلا أنهم أضافوا نصاً دستورياً في دستور العام 2012 يمكّن القضاء العسكري من محاكمة المدنيين، ما أدى إلى «دسترة» المحاكمات العسكرية للمواطنين غير العسكريين في سابقة هي الأولى بالدساتير المصرية، وهي المادة التي يحاكم بسببها اليوم العشرات من المواطنين بعضهم من أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي.
واليوم، وبعد تشكيل «لجنة الخمسين» لتعديل دستور العام 2012، بدأ نشطاء وحقوقيون في الضغط من أجل إلغاء المادة الدستورية التي تبيح محاكمة المدنيين عسكرياً، ووضع نص واضح يقضي بضرورة مثول المواطنين المدنيين أمام قاضيهم الطبيعي.
وأصدرت مجموعة «لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين» بيانا أدانت فيه تبني عدد من أعضاء اللجنة المنوط بها تعديل الدستور خطاب المؤسسة العسكرية في تبرير محاكمة المدنيين عسكريا، مطالبين بعقد لجنة استماع مخصصة لمناقشة القضية، يحضرها حقوقيون، وذلك لعرض الانتهاكات التي تجرى أثناء محاكمة مدنيين أمام قضاء عسكري.
«نحن لا نبرّئ المتهمين مسبقا، نحن فقط نطالب بحقهم في المثول أمام قاضيهم الطبيعي. هذا جزء من تحقيق العدالة. القضاء العسكري فضلا عن كونه قضاءً خاصاً غير مجهز للتعامل مع قضايا عادية، فهو أيضا غير مستقل»، هكذا ترى راجية عمران.
في العام 1954 تشكلت لجنة برئاسة الفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري، وكتبت مشروع دستور نصّ ضمن مواده على حظر مثول المدنيين أمام أي محاكم استثنائية أو عسكرية. رفضت السلطة الناصرية وقتها المشروع برمته، لتستمر المحاكمات العسكرية للمدنيين حتى الآن.
وعلى مدار 63 عاما لم تختفِ المحاكمات العسكرية للمدنيين عن الواقع المصري. كانت تهدأ ثم تعود من جديد. تعددت الدساتير ولكنها اشتركت، إما في الصمت عن الأمر تاركة للقانون تحديد إمكانية التوسع في استخدام القضاء العسكري من عدمه، وإما في إقرار المبدأ بشكل واضح كما هو الحال في دستور العام 2012 الجاري تعديله حالياً.
مصطفى محيي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد