معمل ألبان حلب «الشرق» التسابق لإطلاق رصاصة الرحمة عليه
بعد أن تصاعدت نتائج تضارب المصالح وتجاذبها في التعامل الإداري مع معمل ألبان حلب عبر السنوات الماضية بما خلفته من تراكمات إهمال واختلاسات كشفت عنها التحقيقات غير مرة يحصد المعمل التابع لشركة الشرق للمنتجات الغذائية بحلب، والعاملون فيه اليوم نتاج تلك الاخفاقات حالة من الضياع بانتظار تحديد المصير، وكفة المؤشرات الاقتصادية ترجح إطلاق رصاصة الرحمة قريباً إنقاذاً للمعمل من خساراته المتصاعدة تحت وطأة الموت البطيء الذي استشرى في هيكليته، وبالتالي لم تفلح فيما بعد أي محاولات إدارية وفنية في انتشاله من هذا الواقع المتردي، وخاصة أن الفساد الذي نخر فيه داخلياً تواتر مع الشح في رفده بالحليب الخام من قبل المؤسسة العامة للمباقر كما جرت العادة عبر عقود ماضية وهي تمثل الدفق في شريان الحياة بالنسبة للمعمل.. وبين مؤيد لإيقاف المعمل ومعارض اشتد الجدل واحتدمت وجهات النظر من قبل أهل البيت أنفسهم وكذلك من المطلعين والمهتمين وذلك في الوقت الضائع بانتظار الحسم من قبل الجهات المعنية.
قمنا بزيارة ميدانية لمعمل الألبان بعد أن ضجت الأجواء العامة للعاملين فيه بالتساؤلات القلقة وقد بدت أجواؤه تحكي بلسان حاله.. أروقة هادئة وصالات خطوط الانتاج فيها ساكنة.. ومستودعات تخزين تنتظر التخفيف من أعبائها بتصريف ينقذ المنتجات الغذائية سريعة العطب من التلف الوارد في ظل صعوبة التسويق.
والأهم عشرات من العمال الخائفين على مصيرهم الوظيفي.. (70) عاملاً وعاملة في المعمل وعلمنا من بعض الموظفين خلال حوارنا معهم أن الطاقة المتاحة للمعمل حالياً هي 5 أطنان وسطياً في اليوم فقط.. موزعة على كل أصناف الإنتاج مابين حليب معقم وألبان وأجبان بعد أن كانت طاقته المفترضة في مراحل سابقة 25-30 طناً يومياً..
كما أن المعمل يفتقد للوكلاء المعتمدين الذين ذهبوا باتجاهات أخرى إثر النكبات التي مر بها المعمل وخاصة بعد توقفه عن الإنتاج نهائياً لمدة ستة أشهر وذلك خلال النصف الأول من عام 2008.
وانصراف مؤسسة المباقر للتعاقد مع القطاع الخاص بأسعار مرتفعة للحليب الخام الذي يعتبر المادة الأولية الأساس لإنتاج المعمل واستجراره منها وفق هذه الظروف بكميات أقل بكثير من طاقة المعمل وبسعر ارتفع عن 14 ليرة سورية للكيلو إلى 18 ليرة بداية عام 2008.
واستمر بالارتفاع نظراً لتزايد الطلب عليه من قبل القطاع الخاص القادر على مواكبة أسعار المباقر مهما ارتفعت على حساب المستهلك في النهاية..
وبالتالي فإن المعمل عاود نشاطه ولكن بإنتاج كميات قليلة وفق المستجر من الحليب الخام وهذا مادفعه إلى تجميع كميات الحليب المستجرة لإنتاجها في يوم واحد تخفيفاً للتكلفة والتوقف عن العمل لثلاثة أيام لاحقة..
وهكذا وجدنا أغلبية العمال متفرقين في أنحاء المكان دون شغلة أو مشغلة.
وخلال حوارنا مع مدير المعمل السيد حامد الحلبي وضعنا في صورة مأساوية لمعمل كان له ماكان من عز في يوم من الأيام وهو اليوم شبه عاجز عن الحركة في ظل قيود وصعوبات داخلية وخارجية كما أسلفنا أودت به إلى هذا الواقع.. حيث بلغت خسارة المعمل على سبيل المثال حوالي 7 مليون ليرة سورية عام 2006 وتصاعدت إلى حوالي 10 مليوناً عام 2007 ثم وصلت بانحدار كبير إلى حوالي 19 مليون ليرة سورية عام 2008 وهو مؤشر واضح على موت بطيء عجزت الإدارة عن الحؤول دونه..
إلا أن وجهة نظر مدير المعمل وهو من أهل البيت الذين واكبوا مراحل تألق المعمل أن الأمل موجود في إعادة الحياة إليه وأضاف إنه اقترح عدم وقف نشاط معمل الألبان.. وإن الحل يكمن في مساعدة الإدارة العامة بتأمين كمية 15 طناً يومياً من الحليب البقري الخام وفق الخطة المقترحة سابقاً من مؤسسة المباقر أو من المجمعات الفلاحية كالغاب مثلاً بسعر أقل 17-18 ليرة سورية بدل أن نأخذه من مؤسسة المباقر بسعر 24 ليرة أولاً وذلك أسوة بمعمل ألبان حمص وإن كانت المجمعات الفلاحية أقرب إليه ولكن يمكن تجاوز هذه المسألة في حال عقد العزم على البدء من جديد، والمساعدة في عملية تسويق المنتج ثانياً وعندها يمكن دخول السوق بقوة نظراًَ لتوفر جودة المنتج مقارنة مع منتج القطاع الخاص بصفته الربحية البحتة ومنافسة السعر بعد تخفيض سعر التكلفة.
وأضاف إن الحكومة منحت صلاحية إخراج المعمل من أزمته إن أمكن وهي فرصة ثمينة تتطلب السعي الجاد من قبل الإدارة لتجاوز الخسارة بتوفير هذين العاملين (المادة الخام- التسويق الجيد) مشيراً إلى أن أسهل الحلول إغلاق معمل الألبان ولكن هذا لايعني أبداً أننا عاجزون عن إنقاذه فيما لوتوفرت الرغبة الحقيقية في ذلك.
إن شرط الاستمرارية لأي منشأة اقتصادية هو الريعية.. هذا ماأشار إليه السيد ناصر حنينو مدير عام شركة الشرق للمنتجات الغذائية (ألبان -بيرة- بسكويت) خلال حوارنا معه بعد أن انتقلنا إلى مقر الشركة حاملين معنا مشاهداتنا وتساؤلاتنا، وأضاف إن الاستراتيجية الخاصة بالمؤسسة العامة للصناعات الغذائية تعتمد اليوم على الصناعات الحيوية مثل المياه والزيوت وتجفيف الخضار وغيرها.. وتؤكد أن الخسارة لم تعد مقبولة حتماً ولامسموحاً بها أصلا.
وعلى هذا الأساس وبناء على قرار مدير عام المؤسسة رقم /442/ تاريخ 29/6/2009 تم تشكيل لجنة مهمتها إعداد مذكرة حول الحل الأنسب اقتصادياً واجتماعياً بواقع الشركة معززاً بخطة إنتاجية لعام 2010 على أن تراعى الريعية للمعامل الثلاثة (ألبان وهو خاسر- بيرة رابحة- بسكويت خاسر) والمقترح منها استمرار تشغيله.
وبالنتيجة اقترحت اللجنة وقف نشاط معمل الألبان ونقل عماله إلى الشركة والاستفادة منهم بدل العمال المؤقتين فيها على خط البيرة غير كحولية المزمع إنشاؤه قريباً وبالتالي الاستغناء عن العمالة المؤقتة المستخدمة حالياً في معملي البيرة والبسكويت وتوفير مبلغ يصل إلى /6765/ ألف ليرة سورية سنوياً.. وإمكانية طرح معمل الألبان للاستثمار بعد وقف نشاطه دون عمالة للحصول على عائد اقتصادي إضافي للشركة.
ولدى سؤالنا عن مقومات هذا الاقتراح ودوافعه وهل الوضع الاقتصادي الخاسر وحده كاف لإيقاف المعمل أم أن هناك حلولاً أخرى يمكن أن تعيد له الحياة من جديد؟
أجاب إن المعمل يعاني من قدم برج تعقيم الحليب المعقم والذي يعود لعام 1959 وعدم توفر الإمكانية لاستبداله بسبب التكاليف الباهظة التي يتطلبها والمقدرة استثمارياً بحوالي 150 مليون ليرة سورية، إضافة إلى أنه من الناحية التسويقية يعاني من صعوبة كبيرة في تسويق منتجات الألبان وذلك لأسباب عديدة منها آلية التسويق ذاتها التي تتطلب إمكانيات مدروسة وقوية في السوق، وارتفاع أسعار الحليب الخام وبالتالي ارتفاع سعر منتجات المعمل بالنسبة للمستهلك وصعوبة المنافسة مع القطاع الخاص الذي يتمتع بمرونة تسويقية كبيرة يفتقدها القطاع العام منذ زمن ولا سيما بعد تحرير أسعار الحليب الخام من المباقر وبالتالي عدم وجود آفاق لتطوير العملية الإنتاجية للمعمل في ظل الواقع الحالي وخاصة أن الجهات الوصائية أكدت عدم الاستثمار في المنتجات الخاسرة.
وأضاف إن الإدارة درست أيضاًَ إمكانية استبدال النشاط بدل إيقاف المعمل وتحويله إلى إنتاج البيرة غير الكحولية ولكن اعترضت هذا الخيار مشكلة وجود المعمل ضمن تجمع سكاني، وهكذا وقع الاختيار على أرض معمل البسكويت القديم في الشركة لإنشاء معمل البيرة الجديد ووضع خيارات أخرى للاستفادة من أرض معمل الألبان فيما بعد، منها طرح فكرة تحويله إلى مركز بيع لمنتجات وزارة الصناعة.. أو طرحه للاستثمار.. وهناك اقتراح تحويله إلى مستودعات لمعمل البيرة غير الكحولية أو تسليمه إلى وزارة أخرى لقاء تسديد ثمن الأرض وفق الأسعار الرائجة.
لكن السؤال الذي يمكن أن يطرح وفق هذه المعطيات: ألا يمكن رفد المعمل مادياً بما يكفل تحديث خطوط إنتاجه وخاصة بعد أن علمنا من السيد حنينو أن تكلفة معمل البيرة غير الكحولية المزمع إنشاؤه بحدود 400 مليون ليرة سورية؟.. إلا أن التوضيح المقنع أشار إلى أن البيرة منتج رابح بكل الأحوال وهذا ماتشير إليه الجدوى الاقتصادية السنوية حيث إن معمل البيرة وعبر السنوات الماضية كان يغطي بربحه خسارات معملي الألبان والبسكويت، وعلى سبيل المثال فإن ريعية معمل البيرة الكحولية عام 2008 كانت 40 مليون ليرة سورية كربح صافي..في حين كانت خسارة الألبان والبسكويت حوالي 39 مليون ليرة فأيهما أجدى اقتصادياً؟
إن اعتماد مبدأ اقتصاد السوق الاجتماعي دفع المؤسسة العامة للصناعات الغذائية الى القيام بدراسة واقع هذه الصناعات وريعيتها وما آلت إليه في محاولة لإعادة هيكلة القطاع العام الصناعي في ظل المنافسة مع القطاع الخاص بما يمتلكه من مقومات الدعاية والإعلان وإمكانيات التسويق كما قامت مؤخراً بالتعاون مع المفوضية الأوروبية بهذا الصدد، حيث أوفد الاتحاد الأوروبي خبراء مشروع التحديث المؤسساتي والقطاعي ismf لدراسة واقع المؤسسة العامة للصناعات الغذائية عام 2007 كنموذج رائد لإعادة هيكلة شركات القطاع العام الصناعي عموماً وشملت هذه الدراسة واقع المعامل الثلاثة لشركة الشرق وقد جاء في تقريرها الشخصي أن معمل الألبان مصدر كبير للخسارة ما قد يكون من المكلف إعادة نشاطه وبالتالي... يجب إيقاف هذا النشاط.
وكان المدير العام السابق للشركة قد أعد مذكرة تفسيرية وشاملة عن وضع معمل الألبان أيضاً عام 2006 وفق الدراسة التي توصلت إليها لجنة شكلت حينها لهذا الهدف و ذلك تجاوباً مع قرار وزارة الصناعة رقم /468/ تاريخ 10/10/2006 المتضمن تشكيل لجنة لتقديم دراسة شاملة عنه، وقد اقترح فيها أن الحل الاقتصادي الأمثل أن يكون المنتج والمصنع للحليب الخام جهة واحدة هي المؤسسة العامة للمباقر التابعة لوزارة الزراعة كوحدة اقتصادية شاملة.
يذكر أخيراً أن معمل الألبان تم إنشاؤه عام 1960 كهدية من منظمة اليونيسيف لإنتاج الحليب المعقم فقط باستطاعة اسمية حوالي 6000 زجاجة /سا سعة نصف ليتر، علماً أن التأخير في بناء المعمل والصعوبات التي كانت حينها لم تسمح بدخول العمل الفعلي إلا عام 1972 حيث تم البدء بتصنيع اللبن واللبنة باستخدام الحليب المجفف بطريقة بدائية دون وجود تجهيزات خاصة لذلك ولم يبدأ المعمل بإنتاج الحليب المعقم إلا عام 1974 عندما بدأت تتوفر كميات الحليب الخام بعد إنشاء محطة أبقار الزربة قرب حلب ، وهكذا فقد أدخلت التجهيزات للمعمل والتقنيات بالتدريج وبوشر العمل فيه بشكل ارتجالي وليس على أساس دراسة إنشائية تأسيسية كاملة لبقية المنتجات (اللبن الرائب- اللبنة-الجبنة القشقوان) وإنما على ضوء الحليب الخام الذي تم البدء بإنتاجه في مؤسسة المباقر عام 1985 وقد لاقت منتجات المعمل في ذلك الوقت الدعم الحكومي سواء باستجرار الحليب من المباقر أم بالتسويق إلى الجهات العامة والبيع المباشر عبر الوكلاء..
إلا أن المعطيات الاقتصادية الجديدة بالتوازي مع تدهور وضع المعمل الفني والتقني والسلبيات الإدارية التي لحقت به في فترات سابقة وانجذاب مؤسسة المباقر نحو القطاع الخاص لتحقيق أرباح أكبر في سعر الحليب الخام الذي يلاقي رواجاً كبيراً في الطلب.. كل هذه العوامل وضعت المعمل في موقف اقتصادي حرج يدافع عنه البعض رغبة في إعادة الحياة إليه من جديد.. ولتطرح منتجاته في السوق كغيرها من عشرات المنتجات المثيلة ويترك للمستهلك الاختيار ويحكم البعض الآخر عليه بالتوقف خلاصاً من خسارة يجدها محققة لامحالة.. فهل تطوى صفحة هذا المعمل بقرار صائب ومنصف أم أنها ستنضوي على شيء من الإجحاف؟
لينا اسماعيل
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد