محاكمة الدولة
تجد الجهات العامة نفسها في معظم الأحيان مضطرة لتقف أمام القضاء إما لتدفع تهما شتى عن نفسها وعن موظفيها،أو لتحاول استعادة حقوق معنوية ومادية سطا عليها كالعادة مجموعة من المتنفذين والفاسدين أو لتنفيذ أنظمة وقوانين بحق بعض المواطنين الذين يكونوا قد خرقوها عن عدم معرفة أو عن قصد..
و إذا كانت الجهات العامة وموظفوها غير منزهين عن الخطأ وبالتالي عن ظلم المواطن الذي لن يجد سوى القضاء فرصته الوحيدة ليحصل على حقوقه رغم المماطلة التي قد تحدث لاحقا في تنفيذ الأحكام القضائية من السلطات التنفيذية،فإن السنوات السابقة وما حملته من عمليات سطو فظيعة على المال العام وممتلكات الدولة وتجاوز القوانين تجعل دخول الجهات العامة أروقة القضاء خطوة أكيدة بغية تحصيل حقوقها و معاقبة مرتكبي التجاوزات والمخالفات، هذا فضلا عن النزاعات التي تحصل بينها وبين شركاء عملها و متلقي خدماتها ومستخدمي منتجاتها“.لكن الذي يحدث أن الجهات العامة غالبا (و أرجو أن تضعوا خطين تحت هذه الكلمة) ما تخسر الدعاوى المرفوعة من قبلها أو تلك المرفوعة ضدها، وهذا ما كان يدفع كل منا نحو طرح السؤال الاعتيادي“..لماذا ؟! هل لأنها في موقع الضعيف قانونيا أم أن متابعتها للدعاوى غير كافية وينقصها الخبرة والكادر المؤهل أم أن هناك أسباباً أخرى“.؟!.
من الطبيعي أن تدخل المؤسسات والشركات العامة كما ذكرنا سابقا في نزاعات قضائية مع كثير من الأفراد والشركات والهيئات الخاصة لاعتبارات تتعلق بطبيعة دورها وخدماتها ونطاق عملها الذي يصل في بعض المجالات لنحو 20 مليون مواطن سوري...
وفي محاولة منا للوقوف على واقع الدعاوى القضائية المرفوعة من قبل الجهات العامة أوضدها والمسؤولين فيها بحكم مناصبهم توجهنا بكتاب خاص لوزير العدل بغية الحصول على موافقة الوزارة للحصول على ما نحتاجه من معلومات وفق الطريقة المعتادة في تعامل الوزارة مع الإعلاميين، إلا أن الوزير وبعد عدة أسابيع أجابنا بكتاب رسمي يؤكد فيه انه «بعد مخاطبة رئيس إدارة قضايا الدولة فيما إذا كانت تتوفر لديه الإحصائيات المطلوبة وافانا برده بموجب كتابه رقم 14552ص تاريخ 6/11/2007 والذي خلص إلى أن الإحصائيات اللازمة لإعداد تحقيق صحفي عن الدعاوى القضائية المرفوعة من الجهات العامة أو ضدها ـ إضافة إلى المناصب والوظائف ـ غير متوفرة بالشكل المطلوب،لأن ذلك يقتضي الرجوع إلى ملف كل دعوى على حدة ـ وهي بعشرات الآلاف ـ وقد تكون الدولة في الدعوى الواحدة مدعية ومدعى عليها بذات الوقت..»
تختلف دعاوى الجهات العامة القضائية المرفوعة من قبلها أو ضدها تبعا لعلاقتها بالطرف المقابل أو الخصم، وهنا توضح السيدة لينا الأتاسي مديرة القضايا في المصرف التجاري السوري ذلك من خلال استعراضها لنوعية الدعاوى القضائية التي تخص المصرف، فهناك دعاوى متعلقة بالعمال و أوضاعهم، دعاوى متعلقة بالتسهيلات المصرفية والمتعاملين الذين لم يلتزموا بتسديد الالتزامات المالية المترتبة عليهم جراء حصولهم على تلك التسهيلات، و من ثم هناك دعاوى عادية كما تسميها وهي تتعلق بإشكاليات المتعاملين و أوضاع حساباتهم والأخطاء التي قد تحدث معهم، ولا تنسى السيدة الأتاسي الإشارة إلى الدعاوى التي يرفعها المتعاملون على المصرف لسبب من الأسباب“مشيرة إلى أن كثرة الدعاوى سببت إرباكات لعمل المصرف الأمر الذي دفعه لإحداث عدة مكاتب منها ما هو مختص بمتابعة القضايا و أخرى بمتابعة المحامين وهنا قدرت السيدة الأتاسي عدد المحامين الذين يتعامل معهم المصرف بنحو 60 محاميا منهم 25 محاميا في دمشق تبعا لاختصاصات كل منهم فهناك محامون تنفيذيون و آخرون استشاريون“الخ.
وطالما أن الأمر متعلق بالمصارف فإن معظم إن لم نقل جميع الدعاوى القضائية المتعلقة بعملها سيترتب عليها التزامات مالية ليست بالقليلة لمن يكسبها قضائيا، إنما حالة المصرف الزراعي التعاوني مختلفة نوعا ما، فمعظم الدعاوى التي رفعها المصرف والتي قدر عددها بنحو 87 دعوى قضائية تتعلق بأعمال الاختلاسات والتجاوزات التي تمت على أموال فروع المصرف السائلة والعينية والقروض الوهمية والتلاعب بسجلاتها المالية، وتقدر بعض الأوساط قيمة الأموال التي يسعى المصرف الزراعي لتحصيلها عبر القضاء بنحو ثلاثة مليارات ليرة، والبعض الأخر يقول ان تركة السنوات السابقة أكبر من ذلك بكثير وهي بذمة العديد من العاملين والمتعاملين الذين خرج بعضهم من السجن دون أن يسدد ليرة واحدة، وكل ما استطاع المصرف فعله هو الحجز على أموالهم التي لا تساوي شيئا غالبا أمام ضخامة ما هو بأعناقهم من ذمم مالية..
نقترب أكثر من ضخامة هذه الظاهرة و ما تشكله من تحديات لعمل الجهات العامة و للمصلحة العامة (دون أن يعني ذلك القفز فوق حق أي فرد باللجوء للقضاء لتحصيل ما يعتبره حقا له) مع الكابوس الذي يخيم على مديرية أملاك الدولة والتي تدخل اليوم كما يقول مديرها هلال الابراهيم طرفا في ما يزيد على 1142 دعوى قضائية خلال الأعوام الأخيرة فقط يطالب فيها المواطنون بفسخ تسجيل بعض الأراضي باسم الدولة وتسجيلها بأسمائهم، وهذا الرقم يتغير يوميا صعودا وليس هبوطا الأمر الذي استدعي تدخل وزارة الزراعة لدى الجهات العليا طالبة تدعيم موقفها و الحد من هذه الظاهرة التي تتخذ أحيانا منحى كيدياً ضد مسؤولي المديرية..
في واقع الأمر ليس فقط موظفو مديرية أملاك الدولة التابعة لوزارة الزراعة هم ما يتعرضون لدعاوى قضائية بحكم وظائفهم وقيامهم بواجباتهم الوظيفية، فكما هو معلوم فمعظم قطاعات العمل الحكومي يتعرض بعض موظفيها لدعاوى قضائية بعضها كيدي وبعضها الأخر تدخل في سياق التقاضي بمفهومه الشائع، وهو ما يضع العاملين في مواقف لا يحسدون عليها“إذ يفترض بهم توكيل محام على نفقتهم الخاصة ومتابعة جلسات الدعوى إذا كانت جزائية فضلا عن تأثير ذلك على العمل و علاقتهم به“
مدير المصالح العقارية العامة محمد درموش والذي جاء إليها من أملاك الدولة وبجعبته ثلاث دعاوى قضائية رفعت عليه بحكم عمله في أملاك الدولة يؤكد إن معظم الدعاوى التي ترفع في مواجهة المديرين تكون كيدية القصد منها الانتقام الشخصي من المدير كرد فعل لعدم تمكن المدعي من تحقيق الغاية التي يتوخاها من موضوع معين.....مضيفا: ومن شأن هذه الدعاوى إرباك العمل و إضاعة الوقت بسبب الإجراءات والأصول المتبعة لدى المحاكم،فضلا على العبء المالي الذي يتحمله المدير نتيجة اضطراره لتوكيل محام والعبء النفسي الذي يسيطر عليه“
و يوضح إن طبيعة الدعاوى القضائية التي ترفع على الموظفين بحكم عملهم تكون إما بدعوى إساءة استعمال سلطة أو عدم تنفيذ أحكام قضائية“الخ، وكما هو معروف فإن مفهوم إساءة استعمال السلطة فضفاض و بالتالي يمكن استغلاله بمناسبة أو غير مناسبة...
و يسرد مدير المصالح العقارية مثالا عن مدير المصالح العقارية في إحدى المحافظات الشرقية الذي أعلن له أنه يفكر جديا في طلب الإعفاء من مهمته و حتى الاستقالة،فهو يقضي يومه في التنقل من محكمة إلى أخرى، و تتفق مديرة القضايا بالتجاري السوري مع درموش في هذه النقطة، إذ تؤكد أن هناك دعاوى جزائية ضد بعض موظفي المصرف إلا أنها في جوهرها لست سوى نوع من "الافتراء والكيدية" على الموظفين بعد فشلهم في تحقيق أمر ما.
إلى جانب حالات الإرباك الناجمة عن تلك الدعاوى في العمل و تضرره جراء طول فترة المحاكمة والخسائر المالية الناجمة عنها، ومن ثم تعرض الموظفين بسبب أو دون سبب لدعاوى بعضها متعلق بسير العمل فترفع شخصية وبعضها الأخر كيدي، يأتي الخطر الأكبر المتمثل في خسارة الجهات العامة للقسم الأكبر من الدعاوى المرفوعة من قبلها أو ضدها، بما يحمله ذلك من خسائر مالية ومعنوية و قانونية.
لقد أصبحت خسارة الجهات العامة لمعظم الدعاوى القضائية التي تدخل فيها كطرف مدع أو مدعى عليها تشكل بالفعل ظاهرة تثير القلق والتوجس والخوف،فهناك مليارات الليرات التي نهبت من خزينتها و مئات الأشخاص المهتمين بسرقتها وتجاوز القوانين سيحصلون على حكم البراءة وشرعية ما فعلوه وبالتالي علينا أن ننظر إلى تأثيرات ذلك على العمل العام والمجتمع وهيبة الدولة ونظامها ومستقبل المؤسسات والشركات العامة، مع تأييدنا لحقوق الأفراد والشركات الخاصة العادلة والمؤيدة بوثائق ومستندات قانونية...
يؤكد هلال الابراهيم مدير أملاك الدولة أن خسارة المديرية للدعاوى القضائية تحولت إلى ظاهرة تتكرار باستمرار وعلى نطاق واسع،فخلال السنوات الأخيرة (لا تتجاوز ثلاث سنوات) خسرت الدولة ما بين 1136 ـ 1500 دعوى قضائية تم خلال صدور أحكام قضائية بفسخ تسجيل بعض الأراضي باسم الدولة وتسجيلها باسم الأفراد...
و المشكلة لا تنحصر في أملاك الدولة بل هي موجودة أيضا في المصرف التجاري الذي أشارت مديرة القضايا فيه إلى أن الدعاوى التي يخسرها المصرف أكبر من الدعاوى التي يكسبها، وهو ذات الأمر في المصرف الزراعي الذي رفع تقريرا في بداية العام الماضي لنقابة المصارف يشكو فيه من صدور أحكام قضائية ببراءة كثير من المتهمين باختلاسات أموال المصرف خلال السنوات السابقة... حيث يرى المصرف في تقريره إلى نقابة عمال المصارف والتجارة والتأمين أن «مشكلة المصرف الحقيقية تكمن بالتناقض الحاصل بين ما توصلت إليه الجهات الرقابية من مقترحات وحلول وبين الأحكام القضائية الصادرة بهذا الخصوص الأمر الذي يزيد من معاناة المصرف في تحصيل هذه المبالغ ويجعل من تحصيلها أمرا شبه مستحيل عدا عن عدم اعتراف بعض الأشخاص بالديون القديمة أو عدم وجود أملاك وأموال لدى هؤلاء تمكنهم من تسديد ما عليهم من التزامات..»
واقترح المصرف بشأن ذلك لتطوير عمله تأمين المؤازرة الكافية من قبل الجهات والسلطات المختصة للتضييق على أصحاب هذه الذمم والاختلاسات المرتكبة من قبلهم من اجل تحصيلها.
لماذا تخسر الجهات العامة الدعاوى القضائية التي تكون فيها طرفا مدعيا ومدعى عليها؟!
قبل تلخيص بعض الأفكار التي تم تداولها بين المحرر و بعض المديرين العامين و المعنيين في الجهات العامة،نشير إلى أن إشكالية خسارة أملاك الدولة لمعظم الدعاوى القضائية شكلت موضوع حوار ونقاش للجنة خاصة شكلت بالتعاون ما بين وزيري الزراعة والعدل تم خلال الاتفاق على اختيار بعض هذه الدعاوى وتحويلها للتفتيش القضائي لمتابعتها ودراستها بشكل قانوني ليصار بعضها لاستخلاص بعض النتائج التي يمكن الاستفادة منها مستقبلا على اعتبار أن الأحكام القضائية الصادرة ستنفذ حتى لو كانت خاطئة...
من ابرز الأسباب التي تعتقد الجهات العامة أنها تشكل سببا مهما لخسارة الدعاوى ما يلي:
ـ عدم وجود محاكم قضائية متخصصة،وما يعنيه ذلك من عدم وجود قضاة متخصصين مؤهلين يحملون ثقافة قانونية متقدمة في المجال الذي يعملون به (مصارف ـ عقارات.....الخ) ،فضلا عن سرعة التقاضي و أثره على عمل مختلف الأطراف، وهذه حالة ستتغير مع إحداث تلك النوعية من المحاكم في سياق عملية إصلاح المؤسسة القضائية وتطوير عملها.
ـ عدم وجود محامين مختصين من إدارة قضايا الدولة التي تتولى مهمة الترافع والدفاع عن معظم الجهات العامة ، وهنا اقترحت وزارة الزراعة على الجهات المعنية إمكانية تفريغ عدد من محامي الدولة للدوام في مديرية أملاك الدولة للاطلاع على القضايا والأنظمة والقوانين وتوكيلهم باستمرار للترافع عنها أمام المحاكم.
ـ وجود حالات من الإهمال وعدم المتابعة من بعض العاملين في الجهات العامة لجهة الاهتمام بالدعاوى والرد على كتب قضايا الدولة، أو وجود بعض العاملين الذين يتأمرون على جهاتهم العامة بغية الحصول على بعض المنافع والمصالح من الطرف الأخر.
ـ هناك أسباب أخرى متعلقة بطبيعة عمل كل مؤسسة، فمثلا في التجاري السوري هناك مشكلة تتعلق بالمعلومات الشخصية للمتعامل والتي كانت خلال السنوات السابقة تقيد دون تدقيق إذ أن الموطن المختار لكثير من المتعاملين غير واضح، مما يصعب معه التبليغ وتنفيذ الإجراءات التنفيذية بحقه.
بكل تأكيد جهات ومؤسسات الدولة ليست مؤسسات فاضلة لا يأتيها الخلل والتجاوزات من بين يديها أو من خلفها،بل هي كغيرها من المؤسسات والهيئات تخطئ و تصيب، تعدل وتظلم، تنفذ القانون وتنام عليه...بمعنى انه من الطبيعي أن تدخل أروقة القضاء، لكن عندما تصبح الظاهرة عبارة عن بالون كبير يأخذ وقت عمل هذه الجهات وجهات أخرى، وعندما تصبح خسارتها للدعاوى قدرا محتوما سواء كانت على حق أو على خطأ فهذا أمر يحتاج إلى حوار موسع على مستوى رئاسة الحكومة ومجلس الوزراء وصولا لقرارات تحد من ظاهرة الدعاوى الكيدية وخسارة الدولة مع احترام وصيانة واستقلالية المؤسسة القضائية...فهناك أموال عامة،و قانون يجب أن يطبق على الجميع ، وهيبة العدالة يفترض أن تظلل الجميع.
زياد غصن
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد