فيما يخص عسكرة الكائن
رغم أن مبدأ الإنتـاجية، الذي تقــوم عليـه الحيـاة المعاصرة، يؤدي، كما يظهر، الى نظام تراتبي، فإنه يقوم، أساساً على غياب كل تراتب، من حيث ان مرمى الإنتاج ليس إلا الفراغ الموحّد. هذا الفراغ الموحّد، هذا الغياب للاختلاف، هو الذي يوجد وراء ظواهر يبدو في الظاهر أن لا شيء يجمع بينـها، مثل توحيـد أنماط العيش و التفكير، واجتثاث المكان والزمان، وإضفاء طابع الحياد عليهما، وفقدان الشعور بالقرب والبعد (الراجع الى تقدم وسائل النقل و الإعلام)، و فقدان الحساسية إزاء الألم الشديد (كون الحروب و الكوارث غدت مشاهد تلفزيونية متشابهة مكرورة ومألوفة)، والتنظيم البيروقراطي، والأنظمة الشمولية، وصناعة الرأي العام وتطويعه وتوحيده عن طريق الدعاية والإعلام...
فما الذي يتسرب اليوم إلى ثقافاتنا، إن حق لنا بعد أن نستعمل صيغة الجمع في هذا الصدد، ليجعلها تنحو نحو هذا التوحيد و التنميط؟ إنها التقنـــيــة. إنها هي التي تُستورد مع الآلات ونماذج التنمية ومخططات التنظيم فتحدد أسلوب تفكيرنا وطرق عملنا ونمط وجودنا. ذلك أنها ليست مجرد آلات. وقد سبق لهايدغر أن بيّن، في محاضرة أصبحت نصا كلاسيكيا، أن ماهية التقنية لا تكمن في استعمال الآلات، وأنها ليست آلة عظيمة تضم أجهزة وأساليب للتنظيم. بل إن ماهيتها لا تكمن أساسا في الآلية إلى حد أننا قد نكون «في» التقنية من غير أن نكون أمام آلات.
إن ماهية التــقنـيـة لا تـنـحل إلى آلات وأجــهـزة، وإنما هي نمط لتجلي الموجـود. إنــها الكيــفيــة التـي يخــتــفي فيــها الوجـــود ليــظهر كمستودع. والأهم أن الإنــسان ذاتــه، بمعارفـه وأنظمتــه الاجتماعية والسيـاسيــة، وأساليب عيشه وتغذيته، وإبداعاته الفنية والأدبية، وتنظيمه لفضاءاته وأوقاته، يشكل هو كذلك جزءا من هذا المستودع. وبما أن الواقـع الفـعلي يمثـل هنا في وحـدة الحسابـات التي تـنـقــلها التصاميم والمخططات، فان الكل يحشر في هذه الوحدة والانسجام، ويغدو الموجود موحد الشكل، عسكري المظهر حتى وإن كان من غير بذلة:
uniforme sans uniformes
عبد السلام بنعبد العالي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد