فساد من العيار الثقيل في مشروع خط حديد دير الزور - البوكمال
لم يقتصر مضمون الملف الساخن لمشروع خط حديد دير الزور - البوكمال ومن ثم العراق مستقبلاً على العيوب والأخطاء الفنية التي ظهرت في الجزء المنفذ من مسار الخط, وإنما تعدت ذلك بكثير لتنكشف فيما بعد حقائق أخرى أكبر من سابقتها تلوح بوجود فصول فساد من العيار الثقيل رافقت عمليات التنفيذ منذ بدء الإقلاع بالمشروع واستمرت لزمن ليس بقصير دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض على ما يجري وراء الأكمة رغم وضوح هذه الحقائق وضوح النهار, وتتمثل ماهية تلك الفصول في عقد صفقات مشبوهة لتوريد مواد أولية مخالفة للمواصفات الفنية وللشروط العقدية تقدر قيمتها بمليارات الليرات السورية وذلك لزوم احتياجات المشروع.
يعود تاريخ البدء بتنفيذ المشروع إلى عام 2000 بمدة عقدية لا تتجاوز 4 سنوات, ويبلغ طول الخط الحديدي 147 كم ويتضمن أعمالاً صناعية وعبارات وجسوراً.
وقد واجهت عمليات التنفيذ حالات كثيرة من التعثر ما جعل المشروع ينزاح عن محوره الزمني بحدود ثلاث سنوات حتى الآن, حيث لم ينجز من مسار الخط سوى مسافة 22 كم وجاءت كحل إسعافي لنقل الغاز من معمل الطابية إلى محطة الشحن, وأظهر استثمار هذا الجزء وجود أخطاء فنية بالجملة ناجمة عن سوء تخطيط بالدرجة الأولى, وسوء تنفيذ بالدرجة الثانية وبخاصة فيما يتعلق بنقاط اللحام التي تعاني من ضعف شديد وتردي نوعية القضبان الحديدية والعوارض الخشبية والمفاتيح إضافة إلى عدم استوائية مسار الخط التي لم تتحقق سرعات أكثر من 50 كم بالساعة, رغم أن السرعة الاستثمارية لهذا الخط وفق الدراسة الفنية والعقدية هي 250 كم بالساعة.
يقول المهندس قصي ابراهيم مدير المشروع: تعاقدت على تنفيذ المشروع نحو 16 شركة قطاع عام وقطاع خاص وبلغ عدد العقود 42 عقداً, وقد وصلت قيمة هذه العقود إلى 4 مليارات ليرة سورية, ومن الممكن أن يصل إجمالي قيمة المشروع إلى 9 مليارات ليرة سورية, والأعمال التي تم تنفيذها سواء في الجزء السفلي أو الجزء العلوي كانت بإشراف شركة ميترا الإيرانية باعتبارها الشركة الدارسة للمشروع, وبالنسبة للجزء المنجز والبالغ طوله 22 كم تم تنفيذ الجزء العلوي منه عن طريق شركة إنشاء الخطوط الحديدية وقد ظهرت فيه مشاكل وعيوب فنية كثيرة ولهذا لم يحقق السرعات العقدية المطلوبة, حيث إن الدراسة الأولى للمشروع كانت في عام 1984 من قبل شركة روسية وبسرعات 160 كم بالساعة وتم تعديل الدراسة من قبل الشركة الإيرانية ميترا بحيث تحقق سرعات 250 كم بالساعة, ولكن ما حصل لم يتحقق من السرعات إلا الجزء اليسير بالنسبة للدراستين وهذا ناجم بالتأكيد عن سوء تخطيط وترد في المواصفات الفنية سواء للمواد التي تم توريدها, أو لعمليات التنفيذ وبخاصة في الجزء المستثمر حالياً.
حقائق هذه المشاكل والعيوب التي تفصح بأن ثمة فساداً كبيراً أغرق أموالاً طائلة تحت مسار سكة الحديد لم تتكشف صراحة وبصوت عال إلا من خلال زيارة وزير الدولة للمنشآت الحيوية لدير الزور مؤخراً للوقوف على واقع المشروع وما يحيط به من مشاكل فنية, وإن كانت هذه الحقائق وفي كثير من الأحيان يحاول البعض البوح بها بإشارات يفهمها اللبيب وغير اللبيب, فقد كشف الوزير في اجتماع موسع بحضور المعنيين في المؤسسة العامة للخطوط الحديدية وشركة إنشاء الخطوط الحديدية ومن خلال مذكرة تفصيلية وتتضمن قضايا ساخنة جداً خاصة بهذا المشروع استوجبت التدخل السريع لوضع النقاط على الحروف عن وجود أخطاء جسيمة في المشروع وعمليات تواطؤ في صرف قيم مواد مخالفة للمواصفات تم توريدها ولا تصلح للاستثمار واستنزفت مليارات الليرات السورية, مؤكداً أن المحاسبة ستطول كل من له علاقة بالموضوع.
إن أهم ما يتضمنه الملف هو توريد قضبان حديدية غير مطابقة للمواصفات الفنية بواقع 24 ألف قضيب حديدي وكذلك توريد عوارض خشبية مصابة ببعض الأمراض الفطرية بواقع 13 ألف عارضة خشبية وتجهيزات ومستلزمات أخرى متردية فنياً, وقد تم صرف قيمة هذه المواد من قبل المؤسسة العامة للخطوط الحديدية دون أي تحفظ أو اعتراض أثناء استلامها, كما تم صرف قيمة الأعمال المنفذة كاملاً للجزء المنفذ رغم وجود أخطاء وعيوب فنية فيها قد تهدد سلامة القطارات أثناء السير عليها, والأكثر من هذا أنه ما بعد الدراسة تم الاتفاق مع المؤسسة على تنفيذ آبار رملية من أجل شدة التربة لتنفيذ القسم السفلي من الخط الحديدي بكلفة حوالي مليار ليرة سورية رغم أن التقارير الفنية كانت تؤكد أنه لا حاجة لمثل هذه الآبار ولكن فيما بعد تم استبدالها بآبار جديدة وذات كلفة قليلة جداً, الأمر الذي شكل وفراً مادياً بحدود 750 مليون ليرة سورية, ولهذا يتضح أن المنافع الشخصية كانت تسبق أي استراتيجية صحيحة يمكن الاعتماد عليها لتحقيق المصلحة العامة.
أوضحت الشركة العامة لإنشاء الخطوط الحديدية أن موضوع توريد القضبان الحديدية تم عن طريق شركة ألمانية وقامت المؤسسة باستلام هذه القضبان التي تبين أنها قضبان خامية وغير معالجة وهذه الحالة تؤكد أن هناك خللاً في العقد, والشروط الفنية الموضوعة كانت غير واضحة ولم تكن في صالح المؤسسة والأهم من ذلك أنه لم تكن هناك لجنة مراقبة أثناء عمليات التوريد, وبالنسبة للعوارض الخشبية فكان عقد التوريد مع شركة فرنسية وقد تم التعاقد مع شركة مراقبة على عمليات توريدها, ولكن العوارض تم توريدها قبل أن تبدأ لجنة المراقبة بعملها ولهذا ألغي التعاقد مع شركة المراقبة, وقد جرت عمليات تركيب 9 آلاف عارضة خشبية وكانت غير مطابقة للمواصفات وتكثر فيها الأمراض الفطرية, حيث تم تشكيل لجان لفحص تلك العوارض وبيان مدى مطابقتها للمواصفات وتبين أنها غير مطابقة وغير مجدية استثمارياً, علماً أن المؤسسة قامت بصرف قيمة هذه العوارض بشكل كامل, وتؤكد الشركة بأنه وجهنا كتب عديدة بهذا الخصوص للمؤسسة تبين اعتراضنا على المواصفة والنوعية, إلا أن الأخيرة أصرت على تركيبها في المشروع.
قال مدير استثمار المنطقة الشرقية سابقاً, كنت شاهد عيان على القضبان الحديدية التي تم توريدها بقيمة 2 مليار ليرة سورية, إذ قامت المؤسسة بتوريد قضبان بطول 300 كم علماً أن طول الخط الحديدي موضوع المشروع هو 147 كم, وأثناء التنفيذ بدأت تظهر عمليات تحفر في القضبان بحدود 5 مم, ولكون هذا يشكل خطورة كبيرة أثناء سير القطارات عليها أعلمت الإدارة العامة بذلك فكان الرد منها علي قاسياً جداً, ونتيجة إصراري تم إرسال دكتور لفحص القضبان وطلب مني 10 عينات وقام على الفور بإعداد تقرير يبين فيه أن العينات جيدة, وللتأكيد بأن القضبان ذات نوعية رديئة فأثناء عمليات اللحام بدأت بعض القضبان تتكسر أي بمعنى أن نقاط اللحام قد فشلت حيث حدثت تكهفات في القضبان بسبب هشاشتها وسرعة انصهارها, وفيما يخص العوارض الاسمنتية, فقد تم تكليفي لاستلام تلك العوارض الموردة من العراق, وأثناء الكشف عليها تبين أن هذه العوارض غير مصممة للمشروع وطلبت تشكيل لجنة فنية لفحص هذه العوارض وهنا تعرضت لموقف قاس آخر من الإدارة العامة, وتم التوجيه بأن يتم استلام هذه العوارض البالغ عددها 7000 عارضة وإدخالها إلى مواقع العمل.
ما بقي أن نقوله إنه مهما كانت المبررات التي سيحاول البعض إبرازها للهروب من دائرة المساءلة إن وجدت فعلاً كما أفصح عنها وزير الدولة, فهي لا يمكن أن تدحض تلك الحقائق الموثوقة التي يكشف عنها الواقع سواء في أرض المشروع أو الموجودة في المخازن والمستودعات كونها أكبر بكثير من أي تسويغ أو تسويف, وهنا إذا كانت هناك جدية في الوقوف على الحقيقة بعينها فهذا يتطلب من الجهات التي بين يديها الملف أن تفتح كل الدفاتر بما فيها العتيقة وتتيح للجهات الرقابية والتفتيشية أن تأخذ دورها الحقيقي في كشف المستور وتحديد المسؤوليات ووضع الأمور في نصابها الصحيح.
عبد اللطيف الصالح
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد