عندما يصبح الجسد لغة الكآبة وآلامها
نشر موقع «هيئة الإذاعة البريطانية» أخيراً تقريراً علمياً يشير الى أن مرضى الكآبة (وهو أكثر الأمراض النفسية انتشاراً) يصابون بأمراض جسدية أكثر من غيرهم، اذ ترتفع بينهم معدلات الإصابة بأمراض القلب والجهاز الدوري والكلي وغيرها. والمعلوم أيضاً أن الكآبة، على رغم أنها مرض نفسي، يعاني المُصاب بها أعراضاً جسدية، مثل الوهن المتواصل والارهاق عند بذل القليل من الــجهد وضيق النفـــس وصعوبة البلع والتعرق.
وأحياناً، يتركز تفكير بعض المرضى على تلك الأعراض الجسدية، فيظنونها هي مرضهم، ويسعون الى الشفاء منها. وترى هؤلاء يتنقلون من طبيب الى آخر طلباً لعلاج أعراضهم الجسدية، من دون فائدة كبيرة. وبالاختصار فإن الكآبة كمرض نفسي «يُعبّر» عن نفسه بأعراض شتى، بما فيها الأعراض الجسدية، ومن ناحية ثانية إذاً، فإن الكآبة تجعل الجسد «يتقبل» أمراضاً جسدية (بحسب التقرير المُشار إليه في بداية المقال) ما يدفع بعض المرضى الى البحث عن علاج لتلك الأمراض، من دون التنبّه الى علاقتها مع الكآبة. وغالباً ما تشفى تلك الأمراض، فيترسخ اعتقاد المريض بأن ما عاناه هو مرض جسدي وقد شفي منه. وبعد فترة، يعود المريض ليصاب بمرض آخر، وبين الإصابتين تبقى حاله النفسية حبيسة المرض النفسي (الكآبة) إلى أن يعالجها. يمكن أن نزيد هذه الصورة تعقيداً. فمنذ فترة غير وجيزة، يعرف الطب النفسي أيضاً أن ثمة مرضى يعانون أعراضاً جسدية، مثل التعب المتواصل والارهاق والغصّة والتعرق واضطراب النوم وآلام الظهر والمفاصل وغيرها، لا أساس لها إلا الاضطراب النفسي. ويُطلق على تلك الظاهرة اسم «الجَسْدَنَة» («سوماتايزيشن» Somatization).
في «الجَسْدَنَة» تصبح العلاقة بين المرضين النفسي والجسدي فائقة التعقيد لأن المريض قد لا يشكو إلا من الأعراض الجسمانية، مثل الإصابة بوجع مزمن في الظهر أو المفاصل، ولا يتوقع أن لتلك الأمور مصدراً إلا الجسد. وكذلك يلجأ، غالباً، الى الاطباء الذين يعتقد أنهم المرجع الصالح لتلك الأمور، ولا يخطر له أبداً أن لها بعداً نفسياً، بل أنه «يقاوم» أي تفسير نفسي لأعراضه. وفي العالم العربي، يصبح هذا الأمر أكثر تعقيداً، لأن الثقافة العربية ما زالت تضع المرض النفسي موضع الإدانة وتعامله على أنه «وصمة» على جبين من يصاب به! ولمعرفة حجم مشكلة «الجَسْدَنَة»، يكفي القول أن «منظمة الصحة العالمية» تعتبر أن ثلث المترددين على العيادات العامة في العالم الثالث يشكون من «الجَسْدَنَة»، لكنهم لا يتحدثون إلا عن مرض أجسامهم.
وكتلخيص يمكن رصد 3 أنواع من العلاقة بين مرض النفس واعتلال الجسد، بحيث يولّد المرض النفسي أعراضاً جسمانية، وتظهر شكايات جسدية محضة لا تفسير لها سوى البعد النفسي («الجَسْدَنَة»)، كما «يسهّل» المرض النفسي الطريق أمام الإصابة ببعض الأمراض الجسمانية. ويجب القول أيضاً أن العلاقات بين النفس والجسد هي أشد تعقيداً ولا تنحصر في هذه الأنواع الثلاثة!
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد