عن اللاذقية.. المدينة المنكوبة بالحرب والفوضى
ليست كما مضى، وحدها الخضرة الخالدة المتجددة باقية كما طرقاتها، أسمها، بحرها، وطيب الله في صدور أهلها.. كل ما عد ذلك تغير، تطور، وفي أحسن الأحوال لم يبقَ على حاله.
في رحلة قصيرة داخل مدينة اللاذقية وريفها المنسي، قد تدرك، و قد لا تدرك متجاهلاً، أن المدينة تغيرت حد الولادة من جديد، كل شيء فيها لم يعد يشبهها.. البعض هناك يقول: لم يبقَ لسكانها سوى الشهداء والجرحى، وفقرُ الحضور والغياب.
يخبرك عجوزٌ واكبت تجاعيد محياه كل مراحل «التشبيح» داخل المدينة، عن «حيتانٍ» خرجت من مياها، لم يعد يكفيها ما ابتلعته من بحر المدينة، عن «الغيلان» التي لم تعد ترقد تحت فيء فساد الماضي، خرجوا، ما عادوا كما مضى، لا طهر الشهداء ولا فقر ذويهم قد يوقف مضيهم.. هم أخوةٌ في التراب فقط.
قلة الحظ كانت قد رمتني في بداية رحلتي داخل مستشفيات المدينة، هناك، أنت حالة من اثنتين لا ثالث لهما.. «واسطة» بحجم جبل، تمنع عنك عجز البتر والإهمال، وضيق الحال و الأسِرَّة، أو «إضبارةٌ» يضيع نصفها قبل البدء في رحلة العذاب والزحام، في رحلةٍ لن تخرج منها حياً مهما علا صوت النبض في عروقك، تتابع بصمت، تلتفت حولك.. لا تجد سوى الموت حاضراً، تارة على الوجوه، وتارة في بعض الضمائر.
ليس بعيداً عن أبواب مستشفيات المدينة، تكمل الرحلة داخل شوارعها المزدحمة، صخباً، «تشبيحاً»، ونسيان، وعلى أطراف كل هذا الوجع المترامي، تلحظُ تنافس أبناء «الغيلان» و«الحيتان» وأصحابهم على افتراش الأرض «عزاً»، بعضهم يرتمي داخل عددٍ من المقاهي بشكل منتظم، لدرجة يمكن القول فيها أنهم باتوا معلماً ثابتاً داخلها، وبعضهم الأخر، أصبح لصوت سياراته موعد ثابت، ولحنٌ، بات أقرب لأن يحفظ قبل المجيء.. تتوقف قليلاً، يلفك العجزُ وبعضُ لحظاتِ استغراب قليلة، تنهيها في معظم الأحيان تمتمةٌ خافتة، هذا «فلان» وهذا أبن «علان».
تتابع المسير، تمضي في شوارعها المتعبة، تتجاهل كل ما أمكن من مخالفات تمتد معك على اختلاف أشكالها وكأنها تسابقك الخطى، قد ترتطم ببعضها، وقد يجبرك بعضها الأخر على تغير خط المسير.. لكنك تمضي.
تتأمل في ملامح الوجوه على طرفي الأرصفة و الشوارع، تشعر وكأنه ما من أحد يراك، كل الوجوه تبدو غارقة في البحث عن رزقها.. عن رزقٍ لم يعلموا أو تجاهلوا مدركين، سرقة نصفه، حتى قبل أن يأذن الله لهذا الرزق أن يكون.
عند تحدثك مع بعض العالمين في خفايا واقع الحال داخل سراديب المدينة لسؤالهم عن علنية كل ما تشاهده من مخالفات و«محسوبيات» تصل حد الفجور، تفجعك حدود أرقام الربح فيها، حتى أنها تتطور تباعاً وفق ما يخبرك به أصحاب التجربة، فاليوم اختلفت التسعيرة وطريقة الرِشى، بعض المتنفذين بات يحددها بسعر الصرف «الدولار» وبعضهم الآخر لم يعد يأخذ عمولة نقدية لقاء أعطاء موافقة استثمار أو لقاء تغطية مخالفة ما، بل يطلب أن يكون شريكاً غير معلن، فرقم الربح وأن قل هنا أو تأخر، لكنه حينها سيكون طويل المدى وشبه دائم.. هي سلسلة حلقات متصلة كما يبدو، تختلف فيها الطرق و تكبر فيها الأرقام ظلما، تتكاثر «سفاحاً».
تتجاوز الصدمة وتمضي متعباً في أحسن أحوالك، كم جميلٌ بحر اللاذقية، يأسرك مهما عظم جبروت سارقيه، فيه سحر أهله وإن حُرموا من مجانية السير فوق معظم شُطْئَانِه، بعد أن بات بازار تتقاسمه سطوة المال، تارة بتوقيع من «فلان إلى فلان» وتارة أخرى بمخالفة علنية، ليست بحاجة لتوقيع أي «فلان» مهما كان.
وحده البحر يتسع أمامك حد المدى، تودعه مغادراً كما لو انك لم تلتقِ به يوماً، وعند لحظة التفاتتك الأولى، حين يصبح البحر خلف ظهرك، تحاول أن تنسى كل السحر خشيةً.. تمضي مدركاً انه لم يعد ملكك، ولن يكون.
قد تكثر الجراح في عمق تراب اللاذقية كما قلوب فقرائها، لكن جرح الريف المنسي يبقى الأشد ألماً، هناك، حيث لا يتسع المكان إلا للفقدان والوجع، يتقاسم المشهد صورتان:
الأولى لبعض القصور و العمارات الفاخرة حيث لم يرَ أصحابها فقر الدروب الضيقة وبيوتها، فيغيب النحيب والصراخ عن السمع.
أما الثانية فهي لتك الدروب الضيقة وبيوتها، لأهلها المتعبين من وجع الفقدان، فلم يغب الضنى شهيداً فقط، بل غابت معه معظم متممات الحياة وأبسطها.. تجاهلاً، نسياناً، وتجسيداً مؤلماً، للامبالاة.
تنهي رحلتك، تمضي متلوع القلب والروح، تعيد النظر والالتفات مراراً لتحاول التأكد هل أنت في اللاذقية، أم في مدينة لم تكن يوما على خريطة أو جغرافية.. أنها اللاذقية، عروس الساحل في ما مضى، وأرملته الحالية.
أخر ما قد يعلق في ذهنك عندما تغادر المدينة بكل ما فيها من غربة الدم والروح، هي بعضُ كلمات لعجوزٍ لا يشبه أي شيء في الدنيا، بقدر ما يشبه اللاذقية، يقترب منك كصخرةٍ ساحلية، يهمس وكأنه يكلم بحرها: يتيمةٌ باتت هذه المدينة كما أهلها، من المؤلم جداً أن تُيتم المدينة سكانها، لكن الأكثر ألماً.. أن تكون اللاذقية يتيمة أهلها.
يوسف الإبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد