دولة كبرى من الدرجة الثالثة، المأساة الفرنسية
تحيّر السياسة الفرنسية، الكثيرين؛ بالفعل، لا يمكن للمرء أن يميّز بين وزير الخارجية، لوران فابيوس، والأعضاء الثانويين في ائتلاف أحمد الجربا: أسف مرير لأن أوباما لم يضرب سوريا، وتحريض رخيص مستمر لاستجرار ضربة أصبحت من الماضي من خلال نشر الافتراءات عن استخدام الجيش السوري، أسلحة كيماوية في العام الحالي، وأخيرا لا آخرا، مشروع قرار لدى مجلس الأمن لإحالة سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية. من المحسوم أن المشروع سيسقط بالفيتو الروسي، وأن تطبيقه، إذا تم اقراره، يتطلب حربا شاملة مستحيلة، لكن فرنسا لا تستطيع أن تنزل عن عجلة الأوهام.
في ملحمة سيمون دي بوفوار الروائية، «المثقفون»، تسجيل مفصل مشحون بالشجن والفتنة لمأساة فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ لقد انشغل المثقفون الفرنسيون وقتا أطول مما يجب في السجالات المريرة حول المقاومة والخيانة إبان الاحتلال الألماني لفرنسا.
كان تباهي المقاومين واصرار عناصر منهم على الانتقام من الخونة، طفولياً، وربما هزليا؛ ففي الخلفية، كان الاحتلال سهلاً وعاصفاً ــــ أشبه بهزيمتنا في الـ67 ــــ وكان هناك متعاونون كثر مع المحتلين، من أعضاء وأجهزة حكومة فيشي ــــ التابعة للاحتلال ــــ ومجتمع الصالونات وأنصاف المثقفين والمومسات الفاضلات. بالطبع، كان هنالك مقاومون وبطولات، إلا أن فرنسا ــــ الدولة، بخلاف بريطانيا وروسيا، أثبتت أنها غير محصّنة إزاء القابلية للخضوع للاستعمار. ولم تُجد بلاغة الجنرال شارل ديغول في معالجة الجرح الدامي لأمة تمرّغت بالهوان، خصوصاً وأنها فرنسا؛ القوة العالمية الاستعمارية الكبرى منذ القرن الثامن عشر، فرنسا الثورة الديموقراطية البرجوازية ونابليون وفتوحاته التي هزت أوروبا والعالم. الجنرال ديغول نفسه ــــ وقواته ــــ كان دورهما في التحرير، في آخر الأمر، بروتوكولياً؛ فهزيمة ألمانيا حققتها القوتان الصاعدتان روسيا والولايات المتحدة، وقد تقاسمتا عالم ما بعد الحرب الساخنة عند خطوط تماس الحرب الباردة.
كانت فرنسا ... الدولة العظمى!، من نصيب الولايات المتحدة، بينما فرنسا الثورة والتنوير والمقاومة والطبقة العاملة الشيوعية والمثقفين، ترنو إلى مصير آخر يحافظ على استقلال فرنسا كقوة عالمية، ويسير بها نحو اشتراكية خاصة بها؛ لكن المأساة كمنت في استحالة البديل: لا يمكن الخروج من التقسيم الدولي للحرب الباردة، ولا يمكن للمثقفين سوى الاختيار بين النمطين العالميين؛ النمط الأميركي والنمط السوفياتي؛ إما الانخراط في الهيمنة الأميركية أو في شيوعية فرنسية موالية للسوفيات من دون شروط. وبين هذين الحدّين، أدارت سيمون دي بوفوار، نقاشات وصراعات وحيوات مثقفيها. ومن هؤلاء، جان بول سارتر (في الرواية: روبير دوبروي) الذي اكتشف، بصدقية المثقف الكوني مع الذات، أن الكتابة بالفرنسية ــــ المواقف والأدوار ــــ لم تعد لها قيمة عالمية في مشهد مغلق على العملاقين الأميركي والروسي.
شهدت السياسة الفرنسية، على مدى الـ 69 عاما الماضية، تموجات محكومة بالعقدة النفسية القومية لأمة ــــ دولة أصبحت من الدرجة الثالثة؛ وبينما سلّمت دورها الاستعماري الهمجي في فيتنام للسيد الأميركي بعد هزيمتها في معركة ديان بيان فيو، تشاركت في الـ 56 مع بريطانيا وإسرائيل في العدوان على مصر الناصرية. كان لديها الأمل بالعودة إلى وضع استعماري ولو من خلال الزاروب الإسرائيلي! ثم انتقلت، بعد العدوان الإسرائيلي في الـ 67 إلى صف معارض للتحالف الأميركي ــــ الإسرائيلي من دون أن تخرج منه واقعياً؛ لكن تلك المعارضة بالذات نشرت الأوهام العربية حول امكانية أن تلعب فرنساً دوراً دولياً مستقلاً؛ الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين كان سابحاً في تلك الأوهام.
هل كانت فرنسا تملك فرصة حقيقية للتحول إلى قطب دولي مستقل عقب انهيار الاتحاد السوفياتي العام 1990؟ كلا؛ فالفراغ في السياسة الدولية لا تملؤه إلا قوة مؤهلة ذاتياً، كما أنه تبين للفرنسيين أن واشنطن، في غياب موسكو، لا تريد شركاء البتة. على كل حال، الفرصة انتهت بالنهوض الروسي؛ لقد أثبتت التطورات أن نتائج الحرب العالمية الثانية لا تزال تحكم العلاقات الدولية، وليس ثمة سوى الأميركيين والروس، مَن يستطيع اتخاذ القرار الدولي.
في بلاد العرب، أفاد الفرنسيون من العلاقات الخاصة مع العراق، ونافحوا، من دون تأثير فعلي، عن النظام البعثي حتى العام 2003؛ اكتشفوا، مرة أخرى، حقيقة الحجم الفرنسي. وعلى الجبهة السورية، توهموا أن رئيسهم الذي يقبل الرشى من آل الحريري يمكنه أن يبسط هيمنته على الرئيس السوري الشاب، بشار الأسد؛ وحالما انكسر الوهم أصبحت سوريا، منذ 2004، مركز التآمر الفرنسي؛ إنما، بالطبع، من درجة أحمد الجربا.
ناهض حتر
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد