جورج برناردشو: سخرية تلامس الواقع وروح نابضة بالحياة
«العظيم هو أبعد الناس حديثاً عن نفسه»
بمزيج من الكبرياء والثقة بالنفس والاعتداد بما امتلك من أدوات ثقافية متقنة، صنف جورج برناردشو نفسه عظيماً، مبتعداً في أدبه عن شخصنة أسلوبه، ومضفياً على منتوجه الفني والإبداعي نكهة عامة ويتطرق إلى مشاكل وهموم الناس والمجتمع ليكون نموذجاً للأديب المنفتح على الحياة، المؤمن بالتطور المجتمعي وجاعلاً من نفسه أديباً حقيقياً بعيداً عن الألفاظ المجردة، فيقول «ما دام لدي طموح فلدي سبب للحياة. القناعة تعني الموت» وهكذا لم يقنع برناردشو بالاكتفاء من الحياة وعاش أربعة وتسعين عاماً كانت بمجملها رحلة سفر طويلة ومجهدة مع أنه كان يقول «قلة من الناس يفكرون أكثر من مرتين أو ثلاث بالسنة، أما أنا فقد صنعت لنفسي شهرة عالمية وذلك بالتفكير مرة أو مرتين بالأسبوع» ومع ذلك لا يمكن لأحد الإنكار أنه قدم خلال مسيرته العديد من الروايات والمسرحيات والقصص التي صنع جورج من خلالها هويته الأدبية الخاصة، ولم يشبه إلا ذاته في الطروحات التي قدمها، بل تمتع بسخرية لم يجدها أحد من بعده، وهو إذ كان ساخراً في أدبه فذلك انعكاس لمرآة ألمه الداخلي، فعانى في صغره ما يكفي ليجعل منه رمزاً للأدب الساخر الهادف إلى استنفار شعب متخاذل لتغيير واقعه وإصلاح أموره فكان يقول «لقد كسبتُ شهرتي بمثابرتي على الكفاح كي أحمل الجمهور على أن يعيد النظر في أخلاقه... وحين أكتب مسرحياتي أقصد أن أحمل الشعب على أن يصلح شؤونه وليس في نفسي باعث آخر للكتابة إذ إنني أستطيع أن أحصل على لقمتي من دونها» وفي ذلك خير دليل على أنه كان منغمساً في آلام مجتمعه ومكرساً أدبه لصنع عالم أفضل.
الطفولة الهاربة
يمكن القول إن البيئة الحاضنة لطفولة برناردشو تعد سبباً رئيسياً لإبداعه الأدبي، فقد تفتحت براعمه عام 1856 في إيرلندا بين أبوين متزوجين شكلياً فقط، حالة الانفصال الداخلي التي طغت على علاقة والديه جعلت منه إنساناً يعتمد على نفسه باكراً في كسب الرزق والعمل، والده كان ذا نكتة لا تخفى على أحد، وميله للشرب الدائم جعله معتكفاً عن الاهتمام بأسرته ولابد أن ابنه ورث جزءاً كبيراً من خفة الدم والسخرية التي شكلت الإطار العام لإنتاجه الفكري لاحقاً، أما والدته فقد كانت تمتلك تمرداً إيرلندياً مشوباً بعاطفة باردة، وذات ميل موسيقي أبعدها عن التقاليد، في طفولته كان جورج يرافق والده في تحصيل إيجارات المباني التي تملكها إحدى الشركات وذلك مقابل مبلغ زهيد جداً لا يكفي قوته، إلا أنه بالمقابل يعتبر تلك الفترة من حياته أروع ما كسب، فقد استطاع أن يراقب الفقراء وطريقة حياتهم جامعاً مشاهد حقيقية لتكون أفكاراً لقصص رواياته المستقبلية. ولأنه عاش فقيراً وتردد على أماكنهم فقد سخر أدبه للدفاع عن حقوقهم المهدورة، ومحاربة الجهل والتطرف، عرف عن برناردشو التقشف في أسلوب حياته ولباسه وطعامه إلا في إنتاجه الفكري، فقد أصدر عدداً لا يستهان به من روائع الآداب كانت بمثابة ثروة فكرية حفظت اسمه في الصف الأول بين الأدباء فهو كما يقول «ولدتُ قارئاً ولا أذكر زمناً كنت فيه من الأمييّن!!».
برناردشو...
مع التعلم وضد التعليم
تاريخ الأديب في المدرسة لم يكن جيداً كما يبدو، رغم ولعه بالقراءة منذ الصغر واطلاعه على الفنون بأنواعها وإنتاجات الأدباء الذين سبقوه، إذ تعلم اللاتينية واليونانية والفرنسية، وأصبح صديقاً مخلصاً للمكتبات، لا يفارقها إلا تعباً أو جائعاً ليعاود القراءة من جديد بروح متجددة وعقل منفتح على الآخرين، إلا أن برناردشو ذا الطباع الإيرلندية وعناده الموروث عن أبويه كان يكره القيود، ولما ارتبطت المدرسة في ذهنه بالإجبار على التعليم، لم يجد فيها مساحة كافية للتفكير الحر، فكان تلميذا كسولاَ يشعر بضيق شديد من عملية التلقين الإجباري التي يقوم بها المعلمون، متخذاً فيما بعد مبدأ التعلم من أجل التعلم والمعرفة، لا من أجل التحصيل المدرسي فقط، كما اعتبر أن المدرسة ما هي إلا سجن كبير، وما المدرسون إلا سجانون لهؤلاء المساجين الذين يطلق عليهم لقب تلاميذ، وما أن سنحت له الفرصة حتى ترك المدرسة منطلقاً لأحضان مدرسة الحياة الكبرى لينهل منها ما استطاع من العلوم والمعارف.
قوانين الحياة عند برناردشو
يقول برناردشو «إن الحضارة لن تتقدم بغير النقد ولا مناص لها كي تتجنّب العفن والركود من إعلان حرية المناقشة» وعلى هذا كان من كبار المدافعين عن حرية الفكر والمؤيدين للعقل وتنصيبه ملكاً على جميع تصرفات الفرد، وكان يدعو للحوار والنقاش الدائم، فلا تتقدم الأمم إلا بالانفتاح على الآخرين ونهل ما أمكن من ثقافاتهم، وعن قانون الحياة بالنسبة له والأسس التي تحكم تصرفاته ودوافعه يقول «طالما أدركت أمامي شيئاً خيراً لن أهدأ حتى أبلغه أو أمهد إليه الطريق وذلك عندي هو قانون الحياة... ». كان برناردشو قانطاً في حياته، بسيطاً في أشيائه، لا يأكل إلا ما يحتاج جسده ولا يلبس إلا ما يلزم ليكسو جسمه بعيداً عن أي مبالغات، فحسب تعبيره أن الإبداع ينبع من التفاصيل البسيطة قائلاً: «لم أقم بمغامرات بطولية.. كل ما حدث أنني عشت حياة عادية، وكلُّ ما كتبتُ في مؤلفاتي من كتب ومسرحيات هو قصة حياتي، وماعدا ذلك فهو الإفطار والغداء والعشاء لا يختلف عن أي روتين عادي...». كان الأديب من أشد المؤمنين بالعمل الدؤوب وبذل الجهد والكفاح لنيل المراد إذ يقول «إن طريق الحياة تمر عبر مصْنع الموت.. »، وفي قوله دلالة أن الحياة تستدعي النضال الدائم وتخطي العقبات وتحمل الآلام.
إنتاج غزير وسخرية محببة
عرف برناردشو بغزارة إنتاجه وسخريته اللاذعة التي عبر من خلالها عن هموم المجتمع، وقد ضمن جميع أعماله جرعة من الضحك والفكاهة معتبراً أن الحقيقة والفكاهة انعكاس لمرآة الواقع، سخر وقته بأكمله للكتابة والتأليف، كما كان عاشقاً للمسرح وألف ما يزيد على الخمسين مسرحية التي تربعت على خشبات أهم المسارح العالمية لسنوات عديدة، مثل «بيوت الأرامل، السلاح والإنسان، بيت القلب الكسير، الإنسان والسوبرمان، كانديدا، الخطيئة الأولى»، إضافة إلى مسرحية «سيدتي الجميلة» التي نال عنها الأديب جائزة نوبل عام 1925، وبكبرياء الواثق من نفسه رفض الجائزة قائلا بسخريته المعهودة «إن هذه الجائزة كطوق النجاة الذي أُلقي إلى السابح بعد وصوله إلى برّ الأمان..». وما كان منه إلا أن تبرع بقيمتها لتأسيس منشأة تشجع نشر أعمال كبار مؤلفي بلاد الشمال إلى اللغة الانجليزية.
يروى عن برناردشو العديد من الطرائف ولا يمكننا الإنكار أنه تمتع بخفة دم وعفوية وسرعة بديهة امتزجت بدمه الإيرلندي العنيد، فطبعت شخصيته بقالب خاص جداً ومما روي عنه أن سيدة قالت له
«لو كنت زوجي لوضعت لك السم في القهوة». فأجابها برنارد شو «عزيزتي.. لو كنت زوجتي لشربتها».
طرفة أخرى تقول إن جورج برناردشو توجه إلى إحدى المكتبات التي تبيع كتباً مستعملة بثمن بخس، فوقع نظره على كتاب يحوي بعض مسرحياته القديمة، ولما فتحه صدم برؤية توقيعه وإهداء باسمه إلى صديق عزيز وكتب عليها بخط يده:
«إلى من قدّر الكلمة الحرة حق قدرها،
إلى الصديق العزيز مع أحر تحيات برناردشو».
وما كان من الساخر برنارد شو إلا أن اشترى هذه النسخة من البائع وكتب تحت الإهداء الأول:
«جورج برنارد شو يجدد تحياته الحارة إلى الصديق العزيز
الذي يقدّر الكلمة حق قدرها» وأرسل النسخة بالبريد المضمون إلى ذلك الصديق.
ويبدو أن برناردشو لم يكتف بالسخرية في حياته، بل أصر على التهكم من نفسه، وهو النباتي الذي رفض تناول اللحم طوال حياته، فقال وهو على فراش الموت « لي الحق أن تُشيعّني قطعان البقر وأسراب الخراف والدجاج وأحواض تحوي الأسماك..... من الحق أن تمشي كلّها في حدادٍ عليَّ.. ». توفي برناردشو عام 1950 عن عمر يناهز الرابعة والتسعين عاماً، فمشت الأمة كلها حداداً عليه وبقيت روحه الحرة تنادي بالمبادئ الإنسانية السامية إلى يومنا هذا.
ديالا غنطوس
المصدر: الوطن
إضافة تعليق جديد