بدر شاكر السياب: كنت شيوعياً
أذكر مطلعاً لإحدى قصائد بدر شاكر السيّاب يقول فيه: "وما من عادتي نكران ماضيّ الذي كانا"، ربما يصلح مفتتحاً للحديث عن هذا الماضي الذي لم يستطع السيّاب نكرانه بالفعل، والذي أخذ شكل اعترافات نشرها عام 1959 في جريدة "الحريّة" البغدادية على شكل 29 حلقة حملت عنواناً واحداً هو "كنت شيوعياً"، ثم تلتها 11 حلقة تحمل كل واحدة منها عنواناً خاصاً بها. إذاً، بين أيدينا 40 حلقة أعدّها وليد خالد أحمد حسن للنشر ضمن دفتيّ كتاب صدر أخيراً لدى "منشورات الجمل" وحمل اسم "كنت شيوعياً".
تأخذ هذه الاعترافات أهمية استثنائية راهناً، لا لأنها تلقي الضوء على جانب إنساني غير معروف من شخصية الشاعر العراقي الذي حظي بشهرة واهتمام كبيرين على الصعيد الأدبي فقط، بل لأنها وثيقة ضرورية لإعادة تشكيل حوادث سياسية كثيرة ماضية عصفت بالعراق وأدّت إلى ما هو عليه اليوم من اضطراب، وإن تكن وثيقة، ولا بد من قول ذلك، على درجة كبيرة من الشخصية والعاطفية والاجتزاء. وهذا ما يمكن فهمه تماماً، إذ يبدو أن همّ السيّاب الأول لم يكن الأمانة التاريخية بقدر ما كان توجيه الاتهامات، والتخلّص على وجه السرعة من وزر ماضٍ لا سبيل الى إنكاره، هو الماضي الذي كان يحمل فيه اسم "الرفيق جرير". لذلك، يروي في الحلقة الأولى ظروف تأسيس الحزب الشيوعي مبرراً انضمامه إليه، ليعود سريعاً في الحلقة الثانية إلى الإعلان: "وصل بنا الحديث أمس إلى اليوم الذي أصبحت فيه عضواً في الحزب الشيوعي العراقي. وتحدّثني نفسي بأن أروي اليوم كيف تركت الحزب الشيوعي العراقي ولماذا تركته وكيف أصبحت عدواً له". هذا يعني عملياً أن السيّاب خصص نصّاً واحداً للحديث عن "شهر العسل" بينه وبين الشيوعيين وكرّس الحلقات الـ39 اللاحقة للتدليل على مساوئ هذا الحزب "الملحد والإباحي" وأخطائه، بل وحتى على جرائمه. في البداية يدخل الشاعر البوح من باب شخصي، فيبرر لنفسه أولاً انجذابه إلى أفكار الحزب التي تريد "العمل للجميع والطعام للجميع والعدالة والمساواة"، كما كان يردد، من خلال حادثة زنوبة زوجة الفلاح التي كانت تخدم في منزل أهله قانعة بعد يوم من العمل الشاق بصحن من المرق أو التمن وببضعة أسمال لها ولأطفالها كلما حلّ العيد. زنوبة هذه سرقت ذات يوم حفنة من الأرز لأطفالها الجائعين، فما كان من مخدوميها إلا أن وضعوا حفنة الأرز المسروق في إناء وتركوه في إحدى غرف الدار طالبين منها أن تكنس تلك الغرفة، فترى وتعلم أن سرقتها قد افتضح أمرها، فراحت تكنس وتبكي، شاعرةً بالخزي والعار والأسف والخوف. ربما أراد السيّاب القول إن لكلٍّ "زنوبته" التي دفعته للانضمام إلى حزبٍ حمل في البداية اسم "الحزب اللاديني"، وأبصر النور في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، وكان عمّه من مؤسسيه الأوائل، وصولاً إلى ملئه استمارة الانتماء إلى الحزب الشيوعي التي قدّمها له شخص إيراني يدعى أحمد علوان (هل لجنسية علوان دلالة معينة؟ في الحلقات اللاحقة سنجد اتهامات بالشعوبية وكره القومية العربية للشيوعيين).
في هذا الإطار، يشير الكاتب إلى مجلة كانت تصدر في لبنان تحت اسم "الشمس" تبشّر بالإلحاد وتحارب الأديان والقومية العربية، صاحبها هو إسبر الغريب، وشعارها أن "آفة الشرق هي أديانه". ولو قمنا بإقفال دائرة الاعترافات بين الحلقة الأولى والأخيرة، لن نجد اختلافاً جوهرياً، اللهمّ إلا ازدياد شراسة الهجوم، وصولاً إلى تحريضٍ مباشر يشبه إلى حد بعيد ما قامت به بعض الجماعات الإسلامية عند نشوئها ضد اليسار واليساريين: "فيا أبناء الوطن رصّوا صفوفكم والله يؤيدكم بنصر من عنده لتحولوا بين الحزب الملحد العميل وبين أن يقيم روابط جريمة تربط مصير مئات من الناس بمصيره... فيروحون، يناضلون، في سبيل تقوية الحركة الشيوعية... لا دفاعاً عنها وإنما عن أنفسهم وعن مصيرهم المرتبط برباط الجريمة... بمصيرها المشؤوم".
في الخلاصة، كتاب "كنت شيوعياً" ثمين لمن يريد معرفة المزيد عن حياة شاعر جيكور وعلاقاته وطريقة تفكيره على المستوى الشخصي، وعن المحيط الاجتماعي والسياسي الذي عاش فيه بحسب وجهة نظره، على الصعيد العام. فهذا الكتاب تقريباً هو كتاب تصفية حسابات يقوم بها السيّاب ضد رفاق قدامى لا يتوانى عن وصفهم بأقذع الأوصاف. وفي الحقيقة لا بد من تسجيل ان الاعترافات التي قدّمها الشاعر ليست الأثمن هنا بل السقطات التي لا تخلو صفحة منها، وإذا أردنا تعداد بعضها سجّلنا الآتي:
أولاً، ثمة نوع من عنصرية يستعملها السيّاب بكل أريحية أحياناً، وخصوصاً لدى حديثه عن اليهود العراقيين، إلى درجة أنه كلما أراد ذكر اسم واحد منهم قال: اليهودي فلان! حتى أنه عيّر في أكثر من مكان الحزب الشيوعي العراقي بوجود يهود بين قادته لمجرّد أنهم يهود: "هنيئاً للشيوعيين شعراؤهم وأدباؤهم، هنيئاً لهم يهودهم الفلاسفة".
ثانياً، من المؤسف أن نسجّل أثناء حديثنا عن شاعر كبير من قامة السيّاب صفة مذلّة مثل صفة التزلّف. بل إن الأوصاف التي أسبغها السيّاب على الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم تكاد لا تختلف عن تلك الأوصاف التي أسبغت على خليفته صدّام حسين. فالسيّاب يسمّي الرئيس العراقي "الزعيم الفذّ"، و"الزعيم العبقري الذي اصطفاه الله"...إلخ. الأغرب من ذلك أن صاحب "أنشودة المطر" راح يشي ببعض الرفاق بدعوى أنهم شتموا "الزعيم العبقري". يقول السيّاب عن أحد هؤلاء الرفاق وفي أكثر من مكان: "وهو ممن لا يتورّعون عن سبّ سيادة الزعيم"!
ثالثاً، نظريته الرجعية في التعامل مع المرأة ونشاطها الحزبي، فكلّما تحدث عن "رفيقة" قام بالتلميح حيناً، والتصريح أحياناً، بأن عفّتها مشكوك فيها، أو أنها كانت تستخدم لإغواء الطلاب وما إلى هنالك من اتهامات تستعذبها المخيّلة الشرقية: "وجاءت الرفيقة الشريفة تماضر وصارت تسبّني سبّاً بذيئاً يندى له جبين كل عذراء، ولو كانت نصف عذراء". وفي مكان آخر، وما أكثر هذه الأمكنة التي يمكننا الاستشهاد بها هنا: "الرفيق باسم اغتصب الرفيقة مادلين مير(...) ووضعت وهي في سجن النساء غلاماً أسمته سلام. فمرحى بالسلام ومرحى بالحزب الشيوعي وابنه سلام".
رابعاً: لغة الشتائم التي يستخدمها السيّاب أثناء الحديث عن خصومه من الشيوعيين، أو حتى منافسيه من الشعراء، وخصوصاً عبد الوهاب البيّاتي الذي يصفه السيّاب بـ"المتشاعر" و"التافه"، ويفصّل مقاطع من شعره ويسخر منها. الغريب الغريب أن السيّاب يأخذ قول البيّاتي: "فالله في مدينتي يبيعه اليهود/ الله في مدينتي قوّاد" ليعلّق عليه كالآتي: "لن أستغلّ هذا السطر فأقول إنه دليل على إلحاد الشيوعيين وكفرهم"!
في مكان آخر، يذكر السيّاب حادثة تكتسب أهمية كبيرة، وتشكّل ربما مختصراً رمزياً لاعترافاته كلها، هي حادثة الإضراب التي دعا إليها بصفته رئيساً لاتحاد الطلبة وانتهت بطرده لمدة سنة من الكلية. يقول إنه بعدما انفضّ الجميع عنه وعن صديقه، وبعدما رفضت الصحف تبنّي قضيتهم قرّرا التوجه إلى جريدة "الساعة" وهي جريدة طائفية (شيعية) كان من بين المسؤولين عنها حسين مروة، الذي كان وقتذاك شخصاً طائفياً بحسب السيّاب قبل أن ينضمّ إلى الحزب الشيوعي، والذي أفهماه أن القضية هي قضية صراع بين السنّة والشيعة ولا علاقة لها بالشيوعية، فسأله مروة:
- أنت شيعي؟
- نعم،
- لكن يقولون إنك شيوعي.
- لقد أضافوا واواً إلى الحقيقة.
ربما نجد في إمرار السيّاب إشارات حول تعرّضه للتهديد من الشيوعيين بين حلقة وأخرى سبباً دفع الشاعر الكبير إلى كتابة حارّة ومندفعة من هذا النوع، لم تأخذ مسافة كافية ومنطلَقاً موضوعياً لمحاسبة الحزب الشيوعي العراقي أو لمحاسبة الذات وإعادة تقويم الماضي. نعزّي النفس بهذا، كي لا نقف على حقيقة مرّة هي المأزق والفصام الكبير في الشخصية العربية الذي لا يستثني للأسف الأنتليجنسيا. طبعاً، تحتاج التجارب الشيوعية العربية إلى أكثر من وقفة نقدية، والأحزاب الشيوعية "جسمها لبّيس"، نظراً الى الأخطاء التي ارتكبها أعضاؤها، أو تلك التي ارتُكبت باسم أفكارها الطموحة إلى درجة تعذّر التنفيذ، وإلى درجة أن تقتصر الفوارق بين "الشيوعي" و"الشيعي" على واو صغيرة.
زينب عساف
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد