النص الديني بين زمن الصدور وزمن التلقي المعاصر
ميزة النص الديني، أنه شكل من أشكال حضور الله الدائم بيننا ولنا، حضور عاقل، ينفتح على مختلف وجوه النشاط الفكري، فلا يكتفي بإلقاء المعنى لديك، أو طبع الصورة في مخيلتك، بل يثير فيك فضول اكتشاف المعنى الكامن وراء المعنى المتبادر، ويحرِّضُك على تنشيط أدواتك الإدراكية وتكثيفها وتوسيعها إلى أقصى حد: «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها».
وعلى رغم تلقينا النصَّ الديني برهبة وإجلال، إلا أن المسافة الزمنية بين زمن الوحي أو زمن الحدث التدشيني الأول للدين، وبين زماننا الراهن، تستدعي السؤال عما إذا كان الذي بين أيدينا أو وصل إلينا من النصوص والشواهد قادراً على حفظ أو نقل حدث الوحي بكامله وعلى توليد كامل اللحظة التأسيسية في وعينا؟ وعما إذا كانت علاقتنا بهذه النصوص هي العلاقة ذاتها التي كانت بين نص الوحي والمتلقي الأول، وهل في الإمكان تلقيه كما تلقاه الأولون؟ بعبارة أخرى: هل المسافة الزمنية بين زمن التأسيس أو التدشين، وبين زماننا، هي فارق عرضي، لا يحول دون وحدة المعنى الديني وثباته في كل العصور، بحيث يمكن القول ان المكونات الدلالية للنص ثابثة وواحدة بحكم وحدة النص نفسه ووحدة مصدر النص الذي هو النبي أو الله؟ أم أن هذا الفارق الزمني، هو فارق بنيوي، يفرض متغيرات أساسية وجوهرية، في علاقتنا بالنص وتلقينا له، وبالتالي تغيراً في معناه وفهمه؟
لعل المغالطة الأساسية التي يستند إليها القول بثبات دلالة النص ووحدة معناه، هي في الافتراض أن الدلالة وبالتالي المعنى المتصور من النص، منحصرة بالنص الديني الذي تتحدد المعاني فيه تبعاً لقواعد اللغة ووسائل الإفهام وتقنيات التعبير المتبعة في زمن صدور النص، وهي قواعد نسقية وأنظمة مغلقة ومكتملة تنطوي على كل علاقات المعنى الممكنة ومُلزمة للجماعة الناطقة بها. وطالما أن كلا العنصرين، النص واللغة، ثابت، فإن الدلالة ثابتة، والمعنى المعبِّر عن مقصد صاحب النص ومراده، واحد وحقيقي وواقعي، ومستقل عن شخص القارئ أو قراءته. فيكون تفسير النص وتأويله بالتالي، منحصرين في الكشف عن المعنى الحقيقي المحدد سلفاً والسابق في وجوده على القارئ، بل وعلى وجود النص نفسه، مع مراعاة قواعد التعبير اللغوي المستقرة والثابتة والمتقدمة أيضاً على أي عملية قراءة.
هذا النوع التقليدي في مقاربة النص، وهو السائد، يقصي دور القارئ المعاصر بالكامل، الذي أصبح المتلقي الفعلي للنص، ويقلل أو يلغي دوره في عملية تحديد الدلالة. فالمعنى، بحسب هذا الفهم، شيء واقعي وخارجي، تنحصر مهمة القارئ أو المفسر في البحث عنه والتقاطه.
المشكلة هي أننا لا نملك التحدث أو التعبير عن أي شيء خارجي ومستقل عنا، سواء كان معنى لنص أو لحقيقة وجودية أخرى، إلا بمقدار معرفتنا عنه. فالذي في حوزتنا ليس معنى النص، بل ما نفهمه من النص، أي المعنى الذهني المحصل منه لا المعنى الواقعي المستقل والمنفصل عن إدراكاتنا وفهمنا. وبالتالي، لا بد من الانتقال من البحث في معنى النص إلى البحث في عملية فهم النص، والنظر في الشروط الضرورية لمقاربة النصوص وتفسيرها.
الانتقال إلى البحث في عملية فهم النص، يصوّب وجهة البحث، إلا أنه لا يحل التعقيدات والتحولات الملازمة للفارق الزمني بين صدور النص وتلقينا المعاصر له. إذ ان النص مع الوثائق والشواهد المرافقة له، هو الوسيط الناقل للرسالة أو البشرى الدينية وينوب عنها. هو كل ما لدينا، ولا يمكننا العبور ذهنياً أو روحياً لمعرفة الحدث التدشيني الأول واستكشافه إلا بواسطته وعبره. ولعل الهدف الأقصى في مسعى المفسرين واللاهوتيين التقليديين، كان في العبور من تفسير المقاطع النصية إلى إدراك النص في أصله أو منبعه، والتعرف على تجربة الحدث التدشيني التي أحاطت بمراحل صدور النص ورافقتها، أي الانتقال من فهم النص إلى فهم صاحبه ومُبلِّغِهِ، بأن يضع القارئ نفسه، بحكم التماثل والتطابق الجوهري بين الذوات المعاصرة والماضية، على قدم المساواة مع المتلقي الأول، بل إذا أمكن مع صاحب الدعوة نفسه. وهذا يحصل بأن يتجرد القارئ المعاصر من تجربته الخاصة ووضعيته التاريخية الراهنة، للتعرف على مقاصد مصدر النص ومراده، وحياً كان أو تجربة حياة، بتمثل تجربة المستقبلين الأولين لخطاب الوحي الأصيل.
لكن هل هذا ممكن؟ أي هل في الإمكان إعادة بناء تجربة التلقي الأولى التي عاشها المتلقون الأولون، بمضامينها العقلية والنفسية والروحية؟ وهل في الإمكان، التعويض عن عدم إمكان استعادة تجربة التلقي الأولى، بالزعم أن القدر والكيف المتوافرين للنصوص التي بين أيدينا، كافيان في التعرف على مراد الله وقصده. أي الانتقال من المتلقي الأول إلى صاحب النص مباشرة؟
المعضلة هي أن الفارق الزمني بين النص والمتلقي المعاصر له، لا يكتفي بوضع عقبات تحول دون تحقيق أي من الغايات المذكورة أعلاه، بل يفرض تحولاً في أصل البنية الدلالية للنص، بحيث لا يعود الفارق بين زمن التلقي الأول وزمن التلقي المعاصر فارقاً في الدرجة، بل يصبح فارقاً في النوع. ويمكننا ذكر أهم التحولات والمتغيرات التي طرأت على الطبيعة الدلالية للنص الديني:
أولاً: ان النص الديني وصل إلينا عبر وسائط بشرية وفعاليات إجتماعية ومؤسسات مذهبية. فلم تخل عملية تدوين كل المصنفات الروائية والتاريخية والفقهية وتصنيفها وانتقائها ونقلها من استخدامات ايديولوجية وهيمنة سياسية وإسقاطات دوغمائية فرضتها أحداث التاريخ الإسلامي. وكان يعوّض عن ضعف المعايير العقلية لهذه الاستخدامات وهشاشة طرقها المعرفية، بمزيد من الصرامة في الضبط النفسي والاجتماعي، الذي يخلع على مختلف الممارسات والنتاجات التدوينية صفة المعلومات الصحيحة والحقيقة المطلقة. عندها، وبدلاً من إسهام المعطيات والنصوص في إعادة بناء أو تمثُّل الحدث والمشهد، إذا بهما يشكلان حاجزاً كثيفاً يمنع من الوصول إلى الحدث الأصلي. فالوصول إلى الصورة الواقعية عن الحدث أو العصر الماضي، لا يكفي فيه بناء الحدث من عناصر المعطى النصي والتاريخي، بل يتطلب أيضاً اختراقاً لتلك الحجب الأيديولوجية وتجاوزاً لطبقات التراكم الدلالي والسيميائي الكثيفة التي ولدتها مؤسَّسات المعرفة الدينية حول النص.
ثانياً: إنَّ جزءاً كبيراً من مكونات أحداث الماضي ووقائعه قد ضاع إلى الأبد، لأنه ببساطة لم يُسجَّل أو يُوثَّق. بل يمكن القول ان ما وُثِّقَ عن الحدث الجزئي لم يَنقل كامل معطيات ذلك الحدث وملابساته. بمعنى أن ما نُقل هو انطباع أو تصور أو تفاعل الناقل عن الحدث لا الحدث نفسه، مع احتمال، ودرجة الاحتمال هنا عالية، أن يكون الحدث المنقول منتقصاً من مجمل معطياته وملابساته. هذا إضافة إلى تعارض المعطيات نفسها وتناقضها، ما يعني أنَّ الحدث الماضي ذهب ولم يعد في الإمكان تمثله أو تصوره بالكامل كما كان لغياب أكثر أجزائه المكونة له ولحصول التشويش في الجزء المنقول منه.
ثالثاً: حصول تحول نوعي في طبيعة النص الديني نفسه الذي كان نصاً شفاهياً في لحظة تبليغه أو صدوره زمن النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، بانتقاله من نص شفاهي إلى نص مكتوب ومدون. هذا التحول ليس شكلياً بل يطاول نظام الاتصال ووضعية العلاقة بين المرسِل والمرسَل إليه. فلم تعد هناك علاقة بين متكلم ومستمع، بل أصبحت بين كلام وقارئ. ما يعني أن المتلقي الأول قد انتهى إلى الأبد ولا يمكن استرجاعه، وأن مُبَلِّغ النص لم يعد حاضراً مع نصه، بل أصبح النص هو المعبر الحصري له.
فإحلال العلامات المادية التي هي الكتابة المسطرة حلت محل صوت المتكلم، الذي بلَّغ الوحي وهو النبي في هذه الحال، ووجهه وجسده، الأمر الذي أدى إلى اختفاء واقعة الكلام. وإلى تغييب قوة التأثير الكامنة في الخطاب الشفاهي والنطوق، الذي لا يتقوم بالكلام فقط بل يعتمد على المحاكاة والإيماء والوجه والإيقاعات والنبرات التي تمثل حال جسم المتكلم أثناء التكلم، والتي لا يمكن النص المكتوب أن ينقلها، لأنه يكتفي بنقل الكلام بعلامات مادية. فالكلمة المكتوبة تقطع روابطها بالشعور والجهد والإيقاع الحاصلة كلها في حادثة التكلم، ويحلّ محلها الشكل الذي يخضع في مراحل لاحقة للتقنين والتجزئة والعزل، وبالتالي الإمعان في تغييب كل مكونات أو ملابسات حدث التبليغ والتلقي الأول.
ولأن الواقعة الحوارية الأولى، زمن تبليغ الرسالة، الوحي والسنّة، تتقوم بالتكلم والسماع، يتم مع الكتابة فصل المعنى عن واقعة الاتصال، ويحل السطر والتسطير محل التعبير بالاسارير والإيماءات والانفعالات. فلا تعود واقعة التكلم هي المثبتة بل قول المتكلم، أي أصبح ما نسطره هو النقل المضموني الخالص لفعل التكلم وليس واقعة التكلم بما هي واقعة. حيث يودع مصير الخطاب في أيدي الحروف المكتوبة لا الأصوات المنطوقة، ويتم استبدال علاقة المشافهة وجهاً لوجه بعلاقة قراءة الكتابة الأكثر تعقيداً، الناشئة عن التسطير المباشر للخطاب في حروف مكتوبة. بالكتابة، تمَّ نسف الموقف الحواري بالكامل، ولم تعد علاقة الكتابة - القراءة المعاصرة حال خاصة من حالات علاقة التكلم - الاستماع التي كانت حاصلة في الزمن التأسيسي الأول، بل أصبح لدينا منطق علاقة جديدة وبالتالي نظام دلالي مختلف في إنتاج المعنى، ما يعني أن التغير الحاصل ليس في الدرجة بل هو تغير نوعي.
إنفصال النص الديني في زماننا عن النبي مُبلِّغ النص، يعني أن مُراد مُبلِّغ النص وصاحبه أخذ يكف عن التطابق والتمازج مع النص المكتوب. بالتالي يصبح الهم مركزاً لا على فهم مُبلِّغ النص وصاحبه بل على فهم ما يقال، والتعرف على مقاصد الخطاب والنص وليس مقاصد النبي أو الله. أصبحت قراءة وعملية تفسير وفهم النص الديني المعاصرة بعيدة ومنفصلة عن النبي وعن حاله الذهنية وعن نياته ومقاصده وميوله التي كان يحملها أثناء تبليغه للنص أو تعبيره هو عن الرسالة والدعوة الجديدة. فأصبح المعنى أو المفهوم الذي أراد النبي إثارته وتحريكه منحصراً بالنص، ولم تعد هناك طريقة أخرى للوصول إلى مقصد النبي سوى النص، وهذا بخلاف زمن تبليغ الدعوة، حيث كان كل من النص والنبي حاضرين، وكان في الإمكان حينها الاستفسار عن مقصد النص ومراده من النبي مباشرة، حيث كان النبي حينها مرجع النص ومفسره وموجه معناه. في حين، انقلبت الوضعية في زماننا، فلم يعد بين أيدينا سوى النص، ومع غياب صاحب الدعوة ومؤسسها، فإن النص أصبح المرجع الوحيد في معرفة مراد صاحب النص ومقاصده ومصدر المعارف الدينية بأسرها.
في المقابل، فإن النص الشفاهي الذي كان في أساس تبليغ النص القرآني، وأساس تعابير النبي ومقاصده، كان يتوجه أثناء المشافهة إلى أشخاص محددين سلفاً، في حين أصبح النص الديني المكتوب يتوجه إلى قارئ مجهول، أي أصبح يتوجه ضمناً إلى كل من يعرف القراءة، وهو ما يسمى بالقارئ الضمني، ما أدى إلى توسيع جمهور المتلقين للنص، بعدما كان زمن الدعوة محدوداً بأصحاب النبي وبقريش، لأن النص المكتوب استطاع أن يتحرر من ضيق موقف المشافهة وجهاً لوجه، الذي يبقى محدوداً بالزمان والمكان والوضع الخاص. ما يعني أن النص المكتوب، بحكم أنه أخذ يتجه ضمناً الى كل من يعرف كيف يقرأ، قد خلق جمهور متلقين لا ينقطع عبر الزمان، ووسع دوائر الاتصال ودشن نماذج تواصل جديدة.
هذه العملية، أي كتابة النص وتوسيع جمهور المتلقين، حررت آفاق النص، وفتحت إمكانات معان جديدة له، وفرضت الانتقال إلى نمط دلالي آخر يجمع النص الديني والقارئ معاً. ليصبح هناك تداخل ونزاع، بين حق القارئ الذي يدعي ملكيته للمعنى الذي استخرجه من النص الديني، وبين النص الديني الذي يلقي بالقارئ داخل شبكة علاقاته الدلالية الداخلية والمتشابكة، ويجعل القارئ، عن قصد وغير قصد، يأخذ الاتجاه الذي يضيئه النص ويقول المعنى الذي يريد النص أن يقوله عبره.
رابعاً: ان القارئ لا يمكنه أبداً أن يضع ذاته جانباً وهو يحاول فهم النص وتأويله، وهذه الاستحالة هي بالضبط ما يجعل المعنى نتاجاً لمشاركة المؤوّل أو المفسِّر وتدخله الخاص في عملية الفهم. فالنص يجعل الماضي معاصراً دائماً للحاضر، وفهم النص لا يعني العودة إلى الحياة الماضية أو تكرار شيء مضى، بل يعني المشاركة في معنى حاضر. فكل تأويل أو تفسير أو فهم، يبقى دائماً مشروطاً بالوضعية التاريخية التي ينتمي إليها القارئ، ويكون لأفكاره الخاصة وأفكار زمانه دور حاسم في إحياء معنى النص واستيعاب مضمونه الحقيقي، حيث يثير المؤول أو المفسر حركة مستمرة من النقاش تؤدي في نهاية المطاف إلى تسوية. فالتأويل أو التفسير، كما يقول غادامار، لا يمكنه أن يستقل عن أفق القارئ الراهن ولا عن الأفق الماضي للنص، بل ينجم عن انصهارهما أو اندماجهما. هذا يعني، أن فهم النص سيتغير باستمرار لتغير آفاق التلقي وتجارب المتلقين. إذ ان الفهم أو التأويل عملية مستمرة من الحوار تكشف لنا في كل مرة عن بعد جديد ومختلف من الأبعاد الدلالية للنص، حيث لا يمكننا أن ننظر إلى أي معنى من المعاني التاريخية المكتشفة بأنه المعنى الحقيقي والنهائي للنص.
لكن هل هذا يعني أن الحقيقة الدينية ضاعت إلى الأبد، وأننا أمام وضعية متفلتة من النسبية، أو الدلالة التي لا تخضع لمعيار، بل للمزاج والتفاعلات الشخصية الصرف؟ وهل نقع أسرى القول بتشتت المعنى الديني والتراجع اللانهائي لمدلول النص الديني؟
في الواقع، فإن التباعد الزماني، بين صدور النص والقارئ المعاصر، لا يمكنه إلغاء مُبلِّغ النص أو صاحبه أو حتى إلغاء المتلقي الاصلي، على رغم غيابهما الشخصي والفيزيائي في زماننا. بل هما حاضران في النص، وفي جملة المعارف والشواهد التي نُسجت حول النص ونُقلت معه. إلا أن الذي تغير هو نظام العلاقة وبنية الاتصال والتواصل بين النص الديني والقارئ، ما يجعل من القارئ، لا مجرد متلق سلبي للنص، بل طرفاً أصيلاً في عملية بناء المعنى. فلا يكون إنصاته للنص إلغاء وتجريداً لذاته من كل هواجسها وهمومها وتاريخيتها، ولا يكون سعي القارئ الذاتي في النص تغييباً لمكونات النص ونظام إحالاته وتجاهلاً لتاريخه وظروف نشأته.
بعبارة أخرى، إن الفارق الزمني، بين صدور النص وتلقيه المعاصر، لم يُعرِّض النص لنقصان في حقيقته أو تعطيل في وظيفته، بل أحدث تحولاً في وضعية النص ونظام علاقاته ودلالته مع متلقيه الجدد، الأمر الذي جعله نصاً مفتوحاً باستمرار على معانٍ، تنتجها في شكل دائم فعالية إنسانية متجددة، تعيش باستمرار هَمَّ وجودها وتحققها ومصيرها في هذا العالم.
وجيه قانصوه
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد