«إسمي أحمر» لأورهان باموق: الحب والفن للخروج من الظلام
لن يعرف أحد تماماً عدد الكتّاب، أو المتطلعين لأن يكونوا كتّاباً، من الذين ما إن قرأوا رواية «اسم الوردة» للمفكر والكاتب الايطالي أومبرتو إيكو، قبل نحو ثلث قرن من الآن، حتى شعروا على الفور برغبة عارمة في محاكاتها، باحثين في تاريخ ما، في فن ما، في ذاكرة فردية او جماعية، عن موضوع يتيح لهم كتابة رواية من ذلك الطراز الذي لم يبد ناجحاً فقط، بل بدا مفتتحاً نوعاً كتابياً جديداً. نعرف في المقابل أن كثراً حاولوا، بعضهم نجح والبعض الآخر اخفق، والبعض الثالث ظل انتاجه محصوراً في أطر جغرافية ضيقة. غير ان واحداً من هؤلاء، واحداً على الأقل، نجح وربما أكثر كثيراً مما كان هو نفسه يأمل. ونجح الى درجة ان عمله أتى من القوة والصدقية بحيث ان كثراً ينسون عندما يقرأون هذا العمل انه، من دون ريب، يمت الى رواية إيكو الأولى والكبرى بصلة نسب، بدءاً من العنوان نفسه، الى الحبكة التي تدور في عصور غابرة وتتحلق من حول مسألة الإبداع، مروراً بـ «الوظيفة» التنويرية المناهضة لمستغلي الدين المتشددين، باسم الدين. بل أتى العمل من النجاح الى درجة ان صاحبه فاز بجائزة «نوبل» الأدبية بعد سنوات، فيما ظلت الجائزة نفسها عصية على الكاتب والمفكر الايطالي الكبير، صاحب «إسم الوردة».
> من نتحدث عنه هنا، بالطبع، هو الكاتب التركي أورهان باموق، وما نقصده من بين أعماله الكثيرة، انما هو، بالطبع أيضاً، روايته «إسمي أحمر»، تلك الرواية التي صدرت أول ما صدرت، في العام 1998. صحيح ان باموق لم يكن مجهولاً لا في الغرب ولا في بلاده، قبل إصداره «إسمي أحمر»، بل كانت كتبه قد بدأت تصدر تباعاً وبدأ يفوز بجوائز كثيرة في العواصم الغربية، ولا سيما بفضل روايته «الكتاب الأسود»، التي كانت، أساساً، وراء شهرته الكبرى. غير ان «إسمي أحمر» ستوصله الى ذروة الشهرة والى مكانة رفيعة في الأدب العالمي، مكانة توّجت في العام 2006، بجائزة نوبل، واستند اليها الكاتب للتعبير عن مواقف سياسية أتت على الضد من سياسات بلاده، ومسلّمات شعبه، ولا سيما في ما يخص المسألتين الكردية والأرمنية. صحيح ان هذا يمكن اعتباره حكاية أخرى، طالما أننا هنا في صدد الحديث عن رواية أدبية «خالصة»، جعلت الفن – والحب اكسسوارياً -، موضوعها الأساس. ولكن، هل صحيح حقاً أن صاحب «إسمي أحمر»، ابتعد عن همومه السياسية والتاريخية والاجتماعية في هذا العمل؟
> على الإطلاق، بل إننا نراه غارقاً في هذه الهموم في صلب هذه الرواية. ولكن قبل الوصول الى هذا، لا بد من وقفة عند الرواية نفسها، موضوعاً وشخصيات وأجواءً زمنية واجتماعية. فنحن هنا في اسطنبول عاصمة السلطنة العثمانية خلال العشرية الأخيرة من القرن السادس عشر، عام 1591 تحديداً، وسط شتاء أتى قاسياً مثلجاً. ولسوف نعرف بسرعة اننا نختلط هنا بعالم رسامي المنمنمات للكتب السلطانية، الذين يعملون على هامش المجتمع، في خدمة القصر لإنجاز أعمال مهمتها الأساسية ان تزيّن الكتب، لكن وظيفتها الحقيقية تقوم في بعث فن يقف على الضد من رغبات وتعاليم المتشددين الذين يرفضون رسم الأشخاص والكائنات، باسم تعاليم الدين. من هنا واضح أن فنانينا المبدعين العاملين في «النقش خانة» إنما يعملون على حبل مشدود. غير ان ما يطالعنا في البداية انما هو جريمة. جريمة كان من شأنها ان تبدو عاطفية، او شخصية، أو أي شيء آخر وسرعان ما تُنسى كما تُنسى ألوف الجرائم الأخرى. غير اننا سنباغت منذ السطور الأولى للرواية، أن الراوية هو القتيل نفسه («السيد أنيق» في الترجمة الانكليزية، «السيد رهيف» في الترجمة الفرنسية، و«السيد ظريف» في الترجمة العربية!!). السيد هذا يقدم الينا نفسه وقد أضحى جثة هامدة مهشمة في قعر بئر، لكنه لا يقول لنا من هو قاتله، ولا لماذا قتل. فهذه مهمة سوف تكون مناطة براوي الفصل التالي، الملقب بأسود (قرا)... والحال ان «إسمي أحمر» تتألف من تسعة وخمسين فصلاً، يتولى رواية كل واحد منها، ومن وجهة نظره الخاصة، شخص مختلف (وأحياناً راو يكون حيواناً، أو مجرد شيء، أو مجرد لون...). أما مجموع الرواة فهو 12 راوياً يتوزعون الفصول بحيث يتسلم كل راو الحكي من سابقه عند نقطة مفصلية من الرواية، فيبدو كل هذا أشبه بلعبة كلمات متقاطعة. غير ان الأساس يبقى التحقيق الذي يكلف به أسود/ قرا. لكن أسود هذا، وهو بدوره رسام بارع من رسامي المنممات، كان قد غاب اثنتي عشرة سنة عن إسطنبول، ليقيم في آسيا البعيدة، متعمقاً في فن النقش والتذهيب والتلوين، قبل ان يعود ليكتشف تأثيرات غربية جديدة تنتمي الى عصر النهضة الإنساني الأوروبي، بات مطلوباً الآن تطبيقها واستلهامها، وسط غضب المتشددين الذين يقودهم الشيخ الأرضروملي الذي جعل من نفسه واتباعه سلطة مضادة يخشاها حتى القصر الذي يميل الى تشجيع التجديد في الفن. غير ان لأسود، همّاً آخر، فهو انما عاد أملاً في أن يستعيد حب طفولته لشيكوريه، ابنة خالته التي كان هاجر لأنها تزوجت من آخر سرعان ما اختفى في واحدة من حروب السلطنة، وتدل المؤشرات، وبعض الشهادات، على انه قتل في الحرب. ومع هذا فإن شيكوريه ليست حرة تماماً، فهي من جهة أم لولدين (شوكت وأورهان)، ومحاطة بشقيق زوجها المختفي الذي يريد بدوره الاقتران بها، مدعوماً من أبيه. مهما يكن فإن زوج الخالة («عمكّم» في النص)، والد شيكوريه، يعد أسود بالزواج من المحبوبة، إن هو أماط اللثام عن لغز اختفاء القتيل ولغز قتله. أما الشكوك فتدور حول كثر، أبرزهم «زيتونة» و «لقلق» و «فراشة»، زملاء القتيل وأسود في «النقش خانة». ولسوف تصل أخبار هذا كله الى القارئ، من خلال مسار تحقيقات أسود التي توصله الى ما لم يكن يتوقع، كما الى الكنوز السلطانية، ولكن بخاصة الى شيكوريه، رغم اعتراض ولديها (اللذين يحملان اسمي أورهان باموق وشقيقه، كما تحمل شيكوريه اسم أم باموق في الحياة العادية، ولسوف نكتشف آخر الرواية ان هذا التشابه في الاسماء لم يكن اعتباطاً). لكن الأخبار ستصل عبر الرواة المتعددين، الذين سيدلي كل واحد منهم بدلوه، ولكن ابداً في تعارض بين دلو وآخر... بل على العكس، حيث ان ابداع باموق في السرد الروائي، كما في هندسة الأحداث بالعلاقة مع شخصياتها المختلفة، تضعنا حقاً أمام أدب كبير، ومجدد. أدب لن يكون من التعسف الربط بينه وبين «ألف ليلة وليلة»، علماً أن ثمة إحالات كثيرة الى أنواع متعددة الى الفكر والأدب العربيين، بل كذلك الى مدن عربية وفنونها (حلب وبغداد ودمشق)، من دون أن ننسى الإحالات، التي تلعب دوراً كبيراً، الى مؤلفات ابن قيم الجوزية، كما الى «شاهنامة» الفردوسي، ناهيك بحكاية «خسرو وشيرين» لنظامي، و «طوق الحمامة» لإبن حزم... فكل هذا حاضر في هذا العمل الغريب والاستثنائي، كما تحضر صفحات تفسيرية غاية في الروعة والدقة حول فن الرسم التركي والهراتي والسمرقندي والفارسي والمغولي، غير ان هذا كله يبقى محصوراً ضمن قطبي الرواية: من ناحية جريمة القتل التي سيُحلّ لغزها في النهاية، وحكاية حب أسود لشيكوريه، التي ستصل الى نوع من نهاية سعيدة في الفصل الأخير الذي يروى لنا بلسان شيكوريه، التي ستخبرنا في السطور الختامية انه بعد ان استقر لهم العيش، قام ابنها أورهان بكتابة الحكاية، ولكن على مزاجه «لذا اياكم ان تثقوا به اذا ما رسم شخصية أسود تائهة اكثر مما يجب، فهو لا يتردد عن الكذب لكي يجمّل حكاياته ويجعلها أكثر اقناعاً».
> يعتبر أورهان باموق التركي الإسطنبوليّ اليوم، واحداً من أبرز روائيي العالم، وحسبنا للتيقن من هذا ان نذكر ان رواية «إسمي أحمر» هذه قد ترجمت الى اكثر من ستين لغة. وكذلك هو على اية حال، وضع رواياته الأخرى، ومنها «الكتاب الأسود» و «القلعة البيضاء» و «الحياة الجديدة» و «ثلج» والأولى بين اعماله «جودت بيك وأبناءه» التي ترجمت مؤخراً، إضافة الى روايته الأخيرة «متحف البراءة» وكتاب عن إسطنبول يضم ما يشبه فصول ذكرياته، منذ ولادته في العام 1952.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد