مجانين «المنظر الحضاري»
الثامنة والنصف مساءً بتوقيت دمشق. تقطع السيّارة أتوستراد حاميش، في الطريق إلى مقهى الروضة، مروراً بالجسر الأبيض. برد خريفي. ليل غير مقمر. لا كهرباء. لولا الكشّافات لكنّا نقود «السيّارة الخفيّة» بلونها الأسود، وهو الحلم الذي داعب عشّاق الخيال العلمي مراراً. نسترجع بعض ما نعرف عن «تجربة فيلادلفيا»، التي تدّعي محاولة البحرية الأميركيّة إخفاء مدمّرة حربية عن العين المجرّدة عام 1943، ما أدّى إلى إصابة طاقمها بالجنون. فكرة تشحذ الخيال بحق.
هذه الحرب ليست سوى جزء من «تجربة سوريا». لمَ لا؟ ها هم أهلها غارقين في الظلام. لا يكاد أحدهم يرى كفّه بالعين المجرّدة. أمّا عن الجنون، فحدّث ولا حرج.
نتنقّل بين إذاعات الإف إم، لقتل المسافة بين حاجز وآخر. على أثير إذاعة شاميّة واسعة الانتشار، يأتي مطلع ملحمي هادر، يتغنّى بطيبة الوطن وخصوبة أرضه ولون قمحه. نكتشف في التتمّة أنّه إعلان «وطني» لماركة «نوودلز» شهيرة (شعيرية سريعة التحضير). إنّها وضاعة العقل التجاري في الابتزاز الشعبوي واستغلال الفاجعة. ربّما يعمد إعلان الماركة نفسها على إذاعة معارضة إلى تمجيد الحريّة، وحق الشعب في اختيار شعيريته.
سريعاً، نغيّر الموجة إلى ندوة حامية حول حملة حكومية شرسة، لإزالة البسطات وسوق البالة العريق وسط العاصمة، حفاظاً على «المنظر الحضاري». كلمتان تجرّع السوريّون مرارة اجتماعهما عبر عقود، منذ ارتاحت الحكومات المتعاقبة إلى سياسة «ترحيل المشاكل» من دون العمل على حلّها، و«تسديد الخانات» في الأرقام الرسميّة بلا منجز على الأرض. إخفاء الغبار تحت السجّادة، أدّى إلى تفريغ كوارث المدن في عشوائياتها المتنامية. التراكم فجّر «الفوضى الخلّاقة» في «الحزام العشوائي الكبير»، وهو التجلّي الأوضح لـ «المنظر الحضاري» بمفاهيمه الوجوديّة. داهية اسمه عبد الله الدردري، فضّ بكارة الاقتصاد السوري مطلع الألفية. «إصلاحات» شرّعت البلاد للعثمانيين وعابري القارات، على حساب الزراعة والصناعة وصغار الكسبة. خجل الرفاق البعثيون من الاعتراف بالهزيمة، أمام عقلية «الدوائر الإمبريالية» والاقتصاد الرأسمالي «العفن». كعادتهم، خرجوا بمصطلح «حضاري» أقلّ وطأة هو «اقتصاد السوق الاجتماعي»، لحفظ ماء الوجه أمام «الطبقة الكادحة». هجر الفلّاحون أراضيهم، وعاشوا في خيم على الأطراف (نازحو الجفاف). تشرّد أهل الورش الصناعية. تغوّل السكن العشوائي. ارتدى الفساد «توكسيدو» نيو ليبرالي، كاسراً الإجماع على لا أخلاقيته. صار جزءاً من الحل بقبول متزايد، بعد أن كان مأخذاً على المنظومة. اتسعت الهوة بين طبقتين. احتقن البركان بحمم جهنّم. من يأبه لكلّ ذلك؟ المهم أنّنا منفتحون بلا حدود. لقد حافظنا على «المنظر الحضاري» بلا رحمة. تماماً، كما يحصل اليوم نتيجة انقطاع الكهرباء المديد. تحوّل دمشق إلى ثقب أسود ومدينة أشباح ومسرح للجريمة الكاملة، لا يتعارض مع «المنظر الحضاري» المستقر بعد إزالة البسطات.
ما هذا النكد؟ لنقفز إلى أخبار الفن والحسناوات. يطربنا صوت دلّوع، يبشّر بمزيد من مسلسلات السيّارات الفارهة والبيوت الأنيقة والفساتين الصرعة. صحيح أنّها أعمال تميّع الزمان والمكان، وتسحق الهوية، وتخدّر الناس، وتربّي الوهم كرمى لعيون المحطّات والمعلنين، لكنّها تصوّر «المنظر الحضاري» كما يجب. الدلّوعة تصرّ على وجوده من الأساس. مذيعة ملتهبة كهذه لا يمكن أن تكون على خطأ.
«هويتك». يطلب عسكري حاجز الجسر الأبيض، فنضطر لإخراس «بونبونة» الراديو. نتابع الطريق يساراً نحو ساحة عرنوس، ثمّ ندخل شارع الباكستان، مارّين بأضواء محل «هاواي» للكحوليّات. ننعطف يميناً إلى شارع العابد، قبل العودة إلى البث. «مجلس الوزراء يطلب من وزارة الاعلام مراجعة واقع الانتاج الاعلامي والبرامج في الاعلامين العام والخاص، بما يقدّم رسالة بنّاءة على المستوى الوطني». خبر يجبرنا على إطفاء المذياع، فيما نبحث عبثاً عن مكان لركن «السيّارة الخفيّة». نمشي على غير هدى. ندور في حلقة مفرغة، حتى أنّنا ننسى سبب المشوار أصلاً. هل من دليل أقوى على أنّنا مجانين التجربة؟
علي وجيه
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد