حكايات من مجتمع النار: لا يُصلح «العطّار» ما أفسدته الحرب
قبل حوالى أسبوعين، أُسعِفَت فدوى (اسم مستعار) إلى عيادة أحد الأطبّاء وهي تُنازع البقاء. السّيدة التي لم تتجاوز الخامسة والثلاثين من عمرها أُنقذَت بعد محاولة انتحارٍ فاشلة هي الثانية من نوعها خلال أقلّ من ستة أشهر.
تحت ضغط صلة القربى التي تربط الطبيب المُسعف بصديقة فدوى وشريكتها في السكن البائس في أحد أحياء حلب، رضي الطبيب بـ«لفلفة» القصّة من دون إخطار الشرطة. «أساساً البلد سايب إلا شوي، معقول ما يطبقو النظام إلا على هالمعتّرة؟»، تقول الصّديقة الفخورة بـ«إنجازها». مع ضحكات شبه هستيريّة ممتدّة على طول الحديث، تروي فدوى قصّتها . قبل أربعة أعوام، بدأت حكايتها. كان النزوح مع زوجها وطفليها امتداداً لحياة مليئة بالصعوبات المعيشيّة «فقر وتعتير، وجوز سكران كل الوقت». شهورٌ قليلة أمضتها الأسرة في أحد مراكز الإيواء المؤقّت، قبلَ أن تحظى بـ«فرصة ما بتتعوّض»، حيث عرض أحد «فاعلي الخير» على فدوى أن تقومَ برعاية أمّه العجوز التي تسكن وحيدة في بيتٍ فخم. كان الشرط أن تقيم مع السيدة وتهتمّ بكل ما يخصّها، وتحصل على يوم إجازة، وستّ ساعات مقسومة على يومين آخرين لتزورَ أسرتها. «20 ألف بالشهر، وأنا آكلة نايمة عند الحجة». عثرت فدوى على غرفة للإيجار انتقل إليها الزوج والطفلان (صبي في العاشرة، وفتاة في الثالثة عشرة من العمر). «كل ما رحت عالغرفة آخدلن معي أكل خير الله، الحجة كانت كريمة كتير. وما شوف غير جسم هالولاد أزرق من الضرب». كان الزوج يمضي معظم وقته في تعاطي الكحول، ويتحيّن الفرصة لضرب طفليه بطريقة وحشية، بسبب أو من دونه. لم تجد فدوى أمامها سوى محاولات ثني زوجها عن سلوكه، بالكلام اللطيف حيناً، والتّهديد أحياناً «أمي وأبي ميتين من زمان، وعندي أخين ما بعرف عنهن شي. كنت قلّو رح يجي يوم وآخد الولدين وأطفش (أهرب)». كان الزوج يلحّ دائماً في طلب مزيد من النقود لشراء الكحول والتبغ، ولا يتوانى عن ضرب فدوى حين ترفض. أكثر الفصول مأسوية بدأت بمرض «الحجة»، حيث اضطرّت فدوى إلى التخلي عن إجازاتها أسبوعين متتاليين، اكتفت خلالهما بسرقة ساعات قصيرة لزيارة أسرتها. لم تعد الزيارات وفق مواعيدَ ثابتة، وهذا قادها إلى معرفة ما كانت تجهله.
أقنعها الزوج بأن يأخذا المصاغ ويهربا قبل عودة الأخ
«وصلت فجأة عالحارة، شفت محمد (اسم مستعار لابنها) قاعد قدام البناية، لما شافني تكركب وحاول ما يخليني أطلع عالغرفة». لم يكن الزوج موجوداً، وكانت ابنته وحيدة مع أحد أصدقائه. اكتشفت فدوى أنّ اثنين من «أصدقاء» الزوج اعتادا أن يتردّدا (كلّ على حدة) على الغرفة منذ شهر للانفراد بالفتاة، مقابل مبالغ ماليّة وزجاجات عرق. في المرّة الأولى، اصطحب الزوج ابنه وتركا رجلاً مع الفتاة ليغتصبَها. لاحقاً، صار الأمر اعتياديّاً وشبه روتيني. «هداك الكلب هرب، أنا جنّيت، صرخت، ضربت بنتي وابني، كنت رح موتن وضربت حالي». الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه فدوى «إني صدقتو لما صار يبكي ويحلف إنو كل شي رح يتغيّر. اتفقنا على أن أترك الشغل، اتصلت بابن الحجة وقلتلو عندي مشكلة ببيتي وبدي أترك الشغل». في اليوم التالي، ذهبت فدوى لتحضر أغراضها، وما تبقى لها من حساب، وحين عادت لم تجد أحداً في الغرفة سوى رسالة تركها ابنها من كلمتين: «راجعين عالحارة». لم تتردّد فدوى في الذهاب خلف أسرتها إلى الحي الواقع تحت سيطرة المجموعات المسلّحة، استغرقها الأمر يومين «كان المعبر تسكّر من زمان، والروحة لهونيك سفر، 14 ساعة عالطريق». في الحي، مُنعت من دخول منزلها، كان الزوج قد أبلغ «الهيئة الشرعيّة» أنّه طلّقها لأنّها «زانية»... هربت من الحي خوفاً من «إقامة الحد». بعد حيرة وضياع، التجأت إلى أحد المُتنفذين في حي مجاور، قام الأخير بـ«شرح القصة للهيئة الشرعية»، لكن الزوج كان قد اختفى مع الطفلين مجدّداً. «خبرني جارنا إنو رمى عليّ اليمين قبل ما يروح عتركيّا. صرلا القصة سنة، ولليوم ما بعرف طريقن. ليش أعيش أنا؟ الموت أشرف لي».
سعاد... و«كلّ ما يلمع»
قصّة سعاد (اسم مستعار) مغايرة من حيث التفاصيل، لكنّ مضمونَها لا يختلف كثيراً. في عام 2013 انتقلت السّيدة الثلاثينية وزوجها من إدلب إلى اللاذقيّة. كانت أمّها قد توفيت وخلّفت كمية من المصاغ الذهبي. شقيقتُها المتزوّجة مغتربة منذ عشر سنوات. شقيقاها مُقاتلان في مجموعتين مسلّحتين مُختلفتين، قُتل أحدُهما في وقت سابق وكان الآخر «عالجبهة لما ماتت أمي». بعد دفن الوالدة، أقنعها الزوج بأن يأخذا المصاغ ويهربا قبل عودة الأخ. «كان معو حق، نحن أحق بالدهب، ما حدا كان يسأل عنها غيرنا. بقينا بالضيعة تحت الضرب منشان ما نتركها وحدا». اختار الزوجان اللاذقية لأسباب كثيرة، على رأسها «إنو مستحيل أخي يوصل لهون». وبسبب توافر المال في أيديهما، لم يكن ترتيب أمور حياتهما صعباً. «استأجرنا شقة مفروشة صغيرة، وصرنا نفكر شو بدنا نعمل. أنا كان بدي نروح عأوروبا، هو كان بدو نفتح مشروع صغير هون». بعد أقل من شهر، استيقظت سعاد ولم تجد زوجها، كان الأمر طبيعيّاً «أحياناً بينزل بيجيب أغراض وبيرجع وأنا نايمة». بعد قليل حاولت الاتصال به، فكان هاتفه مغلقاً. بعد ثلاث ساعات أصابها قلقٌ كبير «قلت لحالي رح ألبس وأنزل دوّر عليه بالمستشفيات، أكيد صاير معو شي، ما بعرف ليش خطر لي أتفقّد الدهب، طلع سارقهن ابن الحرام». لم تستسلم سعاد، بدأت حملة من التواصل مع كل الأقارب والأصدقاء بحثاً عنه «في واحد صاحبو كان يحكي معو كل يوم، ترجّيتو إذا بيعرف عنو شي يخبرني». بعد أيام أخبرها الصديق بأنّ زوجها قرّر «يشوف حياتو، الزلمة بدو ولد». سعاد كانت عاقراً «بس هو كان يكذب ويقل لي شوفتك بتسوا كل أولاد الدنيا. قلتلو لرفيقو خبرو إني ما بدي منو شي بس يطلقني». بعد أسبوعين من التواصل المستمر مع الصديق الوسيط، واللقاءات شبه اليوميّة «نمت مع رفيقو. كانت لحظة ضعف. تاني يوم حكاني الكلب (تقصد زوجها) عالواتس آب من رقم غريب، وبعتلي صورة إلي ولرفيقو بالتخت، وصار يهددني بالفضيحة». اكتشفت سعاد أنها وقعت ضحيّة تواطؤ، وتحوّلت من مطاردة شخص إلى مطاردة شخصين، لكنّها كانت مكبّلة بمخاوف كثيرة على رأسها خوف الفضيحة. جارتُها التي صارت «بيت أسرارها» نصحتها بأن تستعين بـ«أبو علي الـ...، بتعرفو؟ هاد واحد واصل كتير وإلو فوتاتو بالأمن والدولة». تضحك سعاد عندما نطالبها بمعرفة النتيجة، «ساعدك»؟ نسألها، تضحك وتجيب: «لأ... صاحبني، قال أحلى الشي فيني إني ما بحبل». آخر فصول حكاية سعاد أنّها استقبلت قبل ثلاثة أشهر عبر حسابها على موقع «فايسبوك» رسالة من حساب وهمي، هي عبارة عن صورة لزوجها وصديقه في إحدى الدول الأوروبيّة. «هلأ أنا بلا أهل، وبلا زوج، وبلا مصاري. بطلع مع اللي بيسوا واللي ما بيسوا منشان جمّع مصاري. إذا بيبقى بعمري يوم بدّي أوصل لهالإبن الحرام (تقصد زوجها) وأعرف شغلي معو».
--------------------------------------------------------------------------------
طلاق عابر للقارّات
النساء لسن ضحيّة دائماً بطبيعة الحال. في حكاية فراس (اسم مستعار) تتبدّل الأدوار. بعد صبر استمرّ عامين على مصاعب النزوح من حي إلى آخر، وأعباء الإيجارات وارتفاع أسعار كل شيء، وصلت الأسرة الصغيرة إلى «آخر الحلول». باع فراس سيّارته، واقترض مبلغاً من شقيقه، وكانت الخطّة أن تسافر زوجته مع أهلها مصطحبةً طفليهما. «راحوا تهريب متل كل هالعالم، بقيت يومين على أعصابي لحتى وصلني خبر منهم باليونان».
نهاية المطاف، كانت في إحدى دول اللجوء الأوروبي، وكان المتفق عليه أنّ الزوجة ستسعى إلى «لمّ الشمل» في أقرب فرصة. لم يطل الأمر كثيراً، بعد شهرين من وصولها راحت تتهرّب من الحديث معه، ثمّ «عملتلي بلوك من كل شي». أحد أقارب الزوجة تولّى إيصال الخُلاصة: «قال ما شافت يوم حلو معك. بدها تتطلّق، ورح توكّل محامي هون. وانس إنو عندك ولاد».
صهيب عنجريني
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد