الفضول يحمي من التفكير المتحيّز
ستظلّ للمرء آراءٌ منحازة مهما بلغ ذكاؤه أو مستوى تعليمه، لكن التحلي بالفضول وحب الاستطلاع قد يساعد على أن يبلور الإنسان مواقف أكثر حكمة وحيادية. فقد كشف علم النفس عن أن المستوى التعليمي للمرء وذكاءه، لا يحولان دون أن تُشكل آراؤه السياسية مواقفه وتوجهاته الأوسع نطاقاً حيال العالم من حوله، حتى وإن كانت هذه الآراء والمعتقدات لا تتماشى مع ما تشير إليه الأدلة الدامغة في هذا الصدد.
رفض انتقائي
اللافت هنا ما تبين من أن قدرة الإنسان على الحكم على الحقائق والمعلومات التي يتعرض لها، ربما تعتمد على خصلة لا تحظى بكثير من الاعتراف؛ ألا وهي الفضول وحب الاستطلاع. ثمة أدلة لا حصر لها في الوقت الراهن، تشير إلى أن معرفة التوجهات السياسية لشخصٍ ما، تساعد على التنبؤ بآرائه حيال قضايا علمية بعينها. وتظهر هذه الأدلة كذلك أن مثل هذه التوجهات تؤثر أيضاً على كيفية تفسير أصحابها لأي معلومات جديدة.
ولذا فمن الخطأ أن يَحْسَب أحدٌ أن بوسعه على نحو أو آخر «تصحيح» رؤى من حوله حيال موضوعٍ ما عبر تقديم مزيد من الحقائق لهم، وذلك في ضوء ما تثبته الدراسات العلمية المتوالية من أن لدى البشر نزعةً للرفض الانتقائي للحقائق، التي لا تتوافق مع المواقف الموجودة لديهم بالفعل.
تنجم عن ذلك مفارقة مفادها أن لدى الأشخاص الأكثر تطرفاً في مواقفهم المعادية لكل ما يقوله العلم – مثل المتشككين في مخاطر التغير المناخي – معلومات علمية أكثر من أقرانهم المعادين للعلم، وإن على نحو أقل حدة. ولكن ألا ينبغي ألا يكون الأشخاص الأكثر ذكاءً عرضةً لأن تتأثر وجهات نظرهم بمواقفهم المسبقة؟
مقاومة المعلومات
الإجابة كلا، فالدراسات تشير إلى أن من يحظون بأرقى مستوى ممكن من التعليم، ويتمتعون بأفضل القدرات في مجال الرياضيات ويتحلون بنزعة لا نظير لها للتفكير والتأمل في ما لديهم من معتقدات، هم كذلك مَن تزيد كثيراً احتمالات مقاومتهم للمعلومات التي تتعارض مع ما لديهم من مواقف مسبقة. ومن شأن ذلك تقويض ذاك الافتراض المفرط في تبسيطه، الذي يفيد بأن تبني آراء مسبقة ينتج عن اعتماد المرء على غريزته بشكل أكثر من اللازم، لا على التفكير العميق.
لكن على العكس من ذلك، تبين أن من لديهم القدرة على التفكير العميق بشأن القضايا التي تنال اهتمامهم، قد يستغلون قدراتهم المعرفية لتبرير ما يعتقدونه بالفعل، وإيجاد أسباب لدحض الأدلة التي تبدو مخالفة لهذه المعتقدات.
قياس الفضول العلمي
الصورة إذن مشوّشة، وتبدو للوهلة الأولى مخيبةً لآمال مَن يهمهم كثيراً وضع العلم والمنطق. ولكن ثمة بصيصاً من الأمل يكمن في نتائج دراسة جديدة أجراها فريقٌ يضم فلاسفةً ومخرجين وعلماء نفس، بقيادة الباحث دان كاهان من «جامعة ييل» الأميركية.
لم يهتمّ كاهان وفريقه فقط بتأثير المواقف السياسية المسبقة على كيفية معالجة البشر للمعلومات، وإنما عكفوا كذلك على دراسة توجّهات مشاهدي الأفلام الوثائقية العلمية، إذ استغلوا ما خلصوا إليه من نتائج في هذا الصدد، لمساعدة مخرجي مثل هذا النوع من الأفلام.
وقد وضع الباحثون مقياسيْن، أولهما يُعنى بالخلفية العلمية لمن شملتهم الدراسة، وذلك عبر طرح مجموعة مما يُعرف بالأسئلة المعيارية عليهم.
أما المقياس الثاني فاتسم بطابع مبتكر، إذ ركز على قياس أمرٍ يرتبط بموضوع الدراسة، وهو مدى فضول الإنسان وحب الاستطلاع الذي يتحلّى به حيال الموضوعات العلمية، وليس ما يعرفه بشأنها بالفعل.
مُنح المشاركون في الدراسة الحق في اختيار موضوعات لقراءتها، كجزءٍ من دراسة مسحية تتناول ردود فعلهم على المضامين الإخبارية التي يتعرّضون لها. وكان اختيار المبحوث لقراءة موضوع علمي، بدلاً من الموضوعات السياسية أو الرياضية، يزيد من الدرجات الممنوحة له في ما يتعلق باتصافه بالفضول وحب الاستطلاع حيال الشؤون العلمية.
المعرفة تفاقم التطرّف
عندما نُظر إلى المبحوثين بناءً على المعيار الأول المتعلق بمدى معرفتهم العلمية، بدت نتائج الدراسة متوقعةً على نحو مثيرٍ للكآبة. فقد أشارت إلى أن المبحوثين اليساريين، من أنصار حزب الديموقراطيين الأحرار في بريطانيا، كانوا أميل إلى اعتبار أن أموراً مثل ارتفاع درجة حرارة الأرض وما يُعرف بـ «التصديع المائي»، تشكل خطراً جسيماً على صحة البشر وسلامتهم ورفاهيتهم. وبحسب التقسيم نفسه، تبين أن المشاركين في الدراسة من ذوي التوجهات اليمينية، وهم من المحافظين المؤيدين للحزب الجمهوري الأميركي، أقل ميلاً لتبني ذلك الرأي الذي أعرب عنه أقرانهم اليساريون.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحدّ، بل كشفت النتائج عن أن اليساريين من ذوي المعلومات العلمية الأكثر غزارة كانوا الأشدّ قلقاً بشأن مخاطر مثل هذه الظواهر، بينما كان نظراؤهم من اليمينيين – أصحاب المعرفة العلمية الواسعة كذلك – الأقل شعوراً بالقلق في هذا الصدد. ومن هذا المنطلق، اتضح أن التمتع بمستوى مرتفع من الوعي والمعرفة العلمييّن يزيد الاستقطاب في الآراء بين ذوي التوجهات السياسية المختلفة، وليس العكس.
الخروج عن التوقعات
لكن الأمر كان مختلفاً، عند النظر إلى المبحوثين بناءً على درجة فضولهم حيال الموضوعات العلمية، وذلك رغم استمرار الاختلافات ما بين اليساريين واليمينيين. فمع أن النتائج أشارت - في المتوسط - إلى أن الفجوة لا تزال واضحة وملحوظة بين الجانبين في ما يتعلّق بتقييم كلٍ منهما للمخاطر المترتبة على ظواهر مثل التغيّر المناخي، فإن آراء الطرفين كانت - على الأقل - تسير في الاتجاه نفسه في هذا الشأن.
أكد فريق الباحثين صحة هذه النتائج عبر إجراء تجربة، مُنح المشاركون فيها الحق في اختيار قراءة موضوع علمي؛ إما يتماشى مع معتقداتهم القائمة من الأصل، أو ذو محتوى مفاجئ لهم.
أظهرت النتائج أن المشاركين أصحاب القدر الأكبر من الفضول العلمي، تحدّوا التوقعات واختاروا موضوعاتٍ تناقضت مع المفاهيم والأفكار التي يتبنّونها، بغض النظر عن كونهم يمينيين أو يساريين. بل إن هذه النتائج صدقت إزاء مسائل مثل الكائنات المُعدلة وراثياً وتلقي تطعيمات واقية من الأمراض، وهي قضايا يتبنّى إزاءها أصحاب التوجّهات اليمينية المتحررة سياسياً مواقف مناوئة لما يقوله العلم بشأنها.
لذة الاكتشاف
وهكذا فمن شأن التحلي بالفضول وحب الاستطلاع، أن يقينا من أن نستغلّ العلم لتأكيد انتمائنا لتيار سياسي بعينه، عبر توظيفه لإثبات صحة أحكامٍ موجودة لدينا مسبقاً. كما تظهر نتائج الدراسات التي تحدّثنا عنها سابقاً أن تعزيز المعرفة بالقضايا العامة يتطلب من المعلمين إدراك أن محاولة ضخ حماستهم في نفوس طلابهم في ما يتعلق بالاهتمام بالعلم، وتعريف هؤلاء الطلاب كيفية الاستمتاع بلذة اكتشاف كل ما هو جديد، لا يقلان أهمية عن تعليمهم بعض الحقائق العلمية الأساسية التي يتعين عليهم معرفتها.
(بي بي سي)
إضافة تعليق جديد